بتعدد حالات وفاة المعتقلين داخل السجون المصرية، يتحول عام 2020 إلى واحد من أسوأ الأعوام في تاريخها، على مستوى الحفاظ على حياة النزلاء والأمن الشخصي والسلامة الصحية، في وقت قرر فيه النظام المصري أن يصم آذانه إزاء المطالبات الحقوقية والمناشدات الدولية المتكررة لتحسين أوضاع المعتقلين والإفراج عنهم، ومنحهم حقوقهم الطبيعية والسماح لأسرهم بزيارتهم وبدخول الأدوية والأطعمة لهم، خصوصاً في ظل فيروس كورونا.
وسجل سجن العقرب، سيئ السمعة والشديد الحراسة، وهو واحد من سجون منطقة طرة، أول من أمس، حالة الوفاة الثامنة والخمسين داخل السجون المصرية هذا العام (حتى الآن)، والثالثة في السجن ذاته خلال ثلاثة أسابيع، والخامسة على التوالي في مصر خلال أسبوع واحد، برحيل الدكتور عمرو علي أبو خليل، الطبيب النفسي المعروف في الإسكندرية، وكان قد اعتقل في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لسبب واحد فقط هو كونه شقيق الإعلامي المعارض هيثم أبو خليل، والذي كان محبوساً على ذمة التحقيق في قضية رقمها 1118 لسنة 2019 المعروفة إعلامياً بـ"إحياء تنظيم الإخوان". وتجمع هذه القضية العديد من المتهمين الذين لا تربط بينهم صلات تذكر، من ضمنهم محامون وحقوقيون وطلبة بالجامعات، وتنوعت أماكن قضائهم فترة الحبس الاحتياطي بين بضعة سجون. وبحسب المتاح من معلومات تلقتها أسرته، فإن المعتقل أبو خليل توفي بأزمة قلبية، بعد مشادة بينه وبين ضابط أو أكثر داخل السجن بسبب اعتراضه على منع إدارة السجن دخول الأدوية للمعتقلين، وذلك عقب أيام من ظهور أعراض كورونا عليه وعلى بعض زملائه.
زيادة حالات الوفاة داخل السجون تأتي في أعقاب إعلان وزارة الداخلية استئناف الزيارات للمساجين
ومن اللافت في ظاهرة زيادة حالات الوفاة داخل السجون، منذ الأسبوع الثالث من أغسطس/ آب الماضي، أنها تأتي في أعقاب إعلان وزارة الداخلية استئناف الزيارات، والسماح لذويهم بالحضور إلى السجون للمرة الأولى منذ بدء اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار كورونا في منتصف مارس/ آذار الماضي. وبحسب مصادر أمنية مطلعة، فقد أدت سياسة السجون في إدارة آلية الزيارات الجديدة إلى انتشار حالة من التوتر والغضب والمشادات بين السجناء والإدارات، وتفاقم سوء الحالة النفسية لآلاف السجناء الذين تم منع الزيارات عنهم طوال هذه المدة وما زالوا محرومين بسبب طبيعة القضايا الخاصة بهم. فضلاً عن أنه من المعتاد زيادة عدد المرضى والمتوفين خلال ذروة فصل الصيف من كل عام، نتيجة حرارة الجو الخانقة وظروف الطقس السيئة وحرمان المعتقلين في أماكن عديدة من التهوئة الصحية.
فالآلية التي وضعتها وزارة الداخلية لإجراء الزيارات تقوم في الأساس على التسجيل المسبق لراغبي الزيارة، وهو ما سمح بالتمادي في منعها بالنسبة لمعظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي والمتهمين بالانضمام إلى تنظيمات وجماعات معارضة للحكم، استمراراً للتمييز السلبي ضد الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. وكان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية التي صدرت بين مارس/ آذار ويوليو/ تموز الماضيين، والتي شملت أكثر من عشرة آلاف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية، ومنهم المئات من الحاصلين على أحكام بالمؤبد في قضايا تصنف بأنها خطيرة على الأمن العام، وكان على رأسهم محسن السكري، قاتل المغنية اللبنانية سوزان تميم لحساب رجل الأعمال الشهير هشام طلعت مصطفى. علماً أنه سبق أن كشف مصدر لـ"العربي الجديد"، أن الأمن الوطني رفض بشدة الإفراج عن قائمة مكونة من 20 من المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا سياسية في مارس الماضي، ووافق فقط على إطلاق 15 معتقلاً.
وأوضحت المصادر الأمنية أن الهدف الرئيس من قرارات العفو تلك، ومن منع الزيارات، هو تخفيف وطأة التدابير التي تتخذ في السجون حالياً لمنع انتشار العدوى في إدارات السجون ذاتها، والتي اتبعت إجراءات غير معتادة في ما يتعلق بتقليل الإجازات والكشف الطبي المستمر على السجناء والضباط وأفراد الشرطة. لكن الأوضاع بدأت في أخذ منحى كارثي منذ منتصف يونيو/ حزيران الماضي بعد تعدد حالات كورونا في سجون المنطقة المركزية وبعض سجون الدلتا.
رفض الأمن الوطني مطالبات السجون بزيادة أعداد المعتقلين المعفو عنهم في منطقة سجون طرة تحديداً
وذكرت المصادر أن الأمن الوطني رفض بشدة مطالبات السجون بزيادة أعداد المعتقلين المعفو عنهم في منطقة سجون طرة تحديداً، حيث لم تبق الأعداد على حالها فقط، بل زادت بتعدد موجات الاعتقال منذ ذلك الحين. كما تمت إعادة تدوير العشرات في قضايا جديدة، بل وإعادة اعتقال العشرات من الشبان الذين كانوا يقضون فترات مراقبة شرطية بالأقسام خلال النصف الأول من العام الحالي. وأوضحت المصادر أن كل ما سمح به الأمن الوطني في هذا السياق هو إعادة توزيع المعتقلين السياسيين على العنابر لتقليل كثافتها، مقابل تقصير فترات التريض والفسحة، بحجة التباعد الاجتماعي. لكن بمرور الوقت اتضح أن جميع التدابير التي اتخذت هشة، وأدت إلى انفجار الموقف بتعدد حالات الإصابة بكورونا والوفاة لأسباب مختلفة لمعتقلين في الخمسينيات والستينيات من عمرهم، عانوا قبل وفاتهم من الإهمال الممنهج، وتم رفض نقلهم لمستشفى السجن المكتظ بحالات الإصابة بكورونا، وفي الوقت نفسه رفض نقلهم لمستشفيات خارجية لأسباب أمنية.
وتتكامل هذه السياسة الأمنية مع اتجاهات قضائية ظهرت هذا العام، لتخلق آلة تنكيل متكاملة بالمعتقلين السياسيين. واتبعت النيابة منحى جديداً، هو فتح قضايا جديدة للمحبوسين احتياطياً، من البارزين والمشهورين على مواقع التواصل الاجتماعي، والذين تركز عليهم الجهات الحكومية وغير الحكومية الأجنبية في مطالباتها بالإفراج عنهم. ويجد المحبوسون، وهم على وشك إنهاء فترة السنتين، أنفسهم محبوسين على ذمة قضايا جديدة، مثل رئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح ونائبه محمد القصاص. وزادت ظاهرة التدوير حدة خلال الأسابيع الماضية ضد معتقلين حقوقيين، نُسبت لهم اتهامات بوقائع ارتكبت وهم داخل السجون.
وما يؤكد إصرار النظام المصري على المضي قدماً في التنكيل بالمعتقلين السياسيين حتى التخلص منهم، استهانته بمناشدات أميركية لإخلاء سبيل المتوفى السابق مباشرة قبل علي عمرو أبو خليل، وهو أحمد عبد النبي محمود، البالغ من العمر 64 سنة، والذي توفي في الثاني من الشهر الحالي في سجن العقرب أيضاً، بعد سنة وتسعة أشهر دون محاكمة، لتقطع الوفاة الطريق أمام تدويره في قضايا أخرى أو اتهامه بارتكاب جرائم خلال فترة حبسه. كما تجاهل النظام اتصالات دبلوماسية وحكومية غربية خلال مايو/ أيار الماضي - قبيل وفي أعقاب الوفاة الغامضة للفنان الشاب شادي حبش بسجن طرة - لإخلاء سبيل السجناء المدانين والنشطاء المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا ذات طابع سياسي، لإنقاذهم من الأوضاع التي لا يمكن التنبؤ بمستقبلها داخل السجون في ظل كورونا، لا سيما مع استمرار اتخاذ تدابير تزيد من عزلة السجناء بمنع الزيارة عنهم، وتقليل فرص اللقاء بدفاعهم، فضلاً عن وقف خروجهم من محبسهم لحضور جلسات نظر تجديد الحبس، خصوصاً مع انتفاء مبررات الحبس الاحتياطي بشكل عام في مصر حالياً، نظراً لعدم إمكانية مغادرة البلاد وسهولة تعقب المتهمين في تدابير حظر التجول المعمول بها.
فتحت النيابة قضايا جديدة للمحبوسين احتياطياً من البارزين والمشهورين على مواقع التواصل الاجتماعي
وخلال الأيام السبعة الماضية توفي أيضاً ثلاثة معتقلين آخرين، هم صبحي السقا بسجن برج العرب بالإسكندرية، وشعبان حسين خالد بسجن الفيوم المركزي، وعبد الرحمن يوسف زوال بسجن استقبال طرة. وفي 13 من الشهر الماضي توفي القيادي في جماعة الإخوان المسلمين عصام العريان بسبب الإهمال الطبي أيضاً في سجن ملحق مزرعة طرة، لاحقاً بالرئيس المعزول محمد مرسي الذي توفي أيضاً داخل قاعة محاكمته في يونيو/ حزيران 2019. وحملت المنظمات الحقوقية الدولية، ومنها "هيومن رايتس ووتش"، السلطات المصرية مسؤولية وفاة هؤلاء المعتقلين، قائلة في بيان، السبت الماضي، أي قبل وفاة أبو خليل، إن "المحتجزين والسجناء ما زالوا يموتون في السجون المصرية رغم المناشدات الحثيثة لتوفير رعاية صحيّة مناسبة لهم. يعكس هذا الأمر إهمالاً غير مقبول من جانب سلطات السجون المصرية". وبحسب تقرير نشرته المنظمة في 16 مارس الماضي، بعنوان "لماذا على مصر الإفراج عن السجناء المحتجزين ظلماً الآن؟"، فإن "السجون المصرية تشتهر باكتظاظها وقذارتها ومخالفتها لقواعد النظافة والصحة". وفيما تضمّنت التوصيات العالمية لاحتواء الفيروس ومنع وصوله إلى السجناء، التي جمعتها منظمة "ديغنيتي" في ملف واحد، إلزام الدول بحق السجناء في الحصول على الرعاية الصحية، توفي خمسة سجناء ومعتقلين في السجون ومقار الاحتجاز المصرية في مارس الماضي وحده، إضافة إلى خمسة آخرين توفوا في فبراير/ شباط الماضي، إلى جانب وفاة سبعة آخرين في يناير/ كانون الثاني الماضي، نتيجة الإهمال الطبي المتعمد. بينما توفي 449 سجيناً في أماكن الاحتجاز خلال الفترة ما بين يونيو 2014 وحتى نهاية 2018. وقد ارتفع هذا العدد ليصل إلى 917 سجيناً (في الفترة بين يونيو 2013 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، بزيادة مفرطة خلال عام 2019، بحسب آخر تحديث حقوقي، بينهم 677 نتيجة الإهمال الطبي، و136 نتيجة التعذيب.