حين أراد الخليل بن أحمد تدوين إيقاعات الشعر العربي، ذهبَ صوب جزيرة العرب، وجمع الشّعر القديم من ذاك المكان الذي فيه اشتدّ عود اللغة العربيّة صفاءً ونقاءً، بعيدًا من لحن الأطراف وعجمتها.
بيد أن الحداثة الشعرية في ذاك الزمان، كانتْ مشرقيّة إن صحّ التعبير، فدمشق وبغداد شهدتا خروجًا موفقًا وأصيلًا عن تلك النصوص الساحرة التي لن يبطل فعلها في النفوس؛ المعلّقات المذّهبات الفاتنات. ولعلّها بقيتْ مشرقيّة المنبت؛ "الأمويون والعبّاسيون"، وسليلته كما في الزواج الفريد بين الأمويين وشبه الجزيرة الإيبيرية؛ الأندلس.
ونظرًا إلى قدم إرثنا الشعري، أعاد التاريخ نفسه في مصادفة حداثيّة: الشعر العربي الحديث مشرقيّ المولد ثانيةً. وللولادات الحاسِمة صخبها وضجيجها، تمشي في دروب النقدِ المتعرّجة بين الرفض والقبول بدايةً، قبل إدراك سياق الجديد والحداثي، بغية وضعه لصقَ القديم في سلسلةٍ شعريّة لا تنقطع.
كذا كان أمر الشعر العربي الحديث، المشرقيّ ولادةً. بيد أن غبار أسئلته الأولى، الزائدة احيانًا، لم يصلْ، لحسن الحظّ، بزخمه إلى بلاد الرّمل والشمس الحارقة والواحات، البلاد المحاطة بضفّتين من ماء البحار؛ شبه الجزيرة.
فحتّى لو أراد النقد التأريخي، النظرَ في التجارب الشعرية المبكّرة هناك، أو تلك التي من أمسٍ قريبٍ في الربع الثالث من القرن المنصرم، إلا أن التجارب الأخيرة تبدو أكثر تألّقًا، لأنها تتمثّل بحقّ، روح شبه الجزيرة.
القصيدةُ ها هنا مترفعةٌ عن لعبة الشدّ والجذب الشهيرة بين "الأصالة" و"الحداثة". فهي تأخذُ من القديم جوهره، ومن الحديث تقنياته الفنيّة، تمزج بينهما ببراعة وأصالة في آن معاً، وبطريقةٍ مخصوصة. إذ لعلّها المرّة الأولى التي يكون فيها لأثر العامِل المحليّ، كلّ هذا الزخم الجميل. المكان بإرثه الخاصّ حاضرٌ في القصيدة، وفي الاستناد إليه بشكلٍ يكادُ يكونُ عفوّيًا، ما يمنح الشعر نكهة عذبة وجريئة.
كيف لشاعر من هناك، إلا أن يكون متحدّيًا؟ فهي أرضُ المقدّس والوثني (قبل الإسلام) معًا. كذا تتسرّب مفردات من الحقلين اللغويين إلى القصيدة. لكن، خلافًا لشعراء الحداثة العرب، نادرًا ما نجد اسم شاعرٍ جاهليّ يزور قصيدة شاعرٍ سعودي، فأهلُ المكان يعيشون في منبت المعلّقات، يتنفسون هواءه، ولا حاجةَ لهم لتعيين أسلافهم، فقد تمثّلوا سحرهم. يكتب محمّد الحرز: "المكانُ وثنيٌ بالضرورة".
هي جرأةٌ هادئة لكن مكينة النبرة، لا صخبَ فيها ولا زمر، ففي الميل نحو قصيدة النثر ما يناسبُ هذه النبرة الراسخة، التي لا تني تزيدُ من جرعة الالتباس بين العالمين : المقدّس والوثني. ألم يكن النثر حاضرًا في مخيلة الجاهليين آن استمعوا إلى القرآن الكريم؟ ففتنتهم تلك الإيقاعات التي تغازل إيقاعات الشّعر من دون أن تبتلّ بها، بلى فتنتهم. وهم بدورهم غنموا كلام الرسول الأجمل: "إن من البيان لسحرا".
شاعر شبه الجزيرة جريء في استعماله مفردات الحقل اللغوي الديني، إذ إن المقدّس متغلغلٌ في ثنايا المكان وروح أهله، يكتب حمد الفقيه: "في الناحيةِ الأقل اكتراثاً منْ أيّ نصٍ/- هناك - ما يجب أن يكون مياهًا تُلامِسُ/ طَرِيقَةَ الإيْمَان – هُناك – من يجبُ أن/ نراهم بعاداتهم القديمة وأيديهم الخشنة/ وهم يَدفَعُونَ عن يَقِينهم الشِّعريّ بِحياةٍ/ كتلك التي نَصنع مَاضِيْها من وجَاهةِ أَخطَائنا؛ أَنا / مَع تِلك النّزعةِ الفقِيْرة لنِهَايَاتٍ سَعِيْدةٍ بقِيْمَة أن تَكُونَ مِسمَاراً صغيراً في/ سَفينة نِوح. إلى هَذا الْحَدِّ؛ يَكونُ الإيْمَانُ نَاتجاً/ لِحِسْبَةِ أُمّهاتِنا البَسِيطَةِ مع فَرقِ ذلك/ الْحِسّ الدّراميّ لِمُلصقٍ عن الآخرةِ".
وبقدر ما تبدو قصائد شبه الجزيرة حاملةً لهموم ومشاغل شخصيّة، فإنها تنهضُ لا بصوت الجماعة، بل بصوتٍ يتمثّل الوجدان الجمعي، ما يوسّع أفقها ويزيد في رحابتها. وحين يحضرُ المقدّس في قصيدة شاعرٍ سعودي، لا يبدو الشعر دينيًا على الإطلاق، ففي تراثنا العربي شعرٌ ونظمٌ دينيان، بقيا في أماكن العبادة والصلاة، ونادرًا ما نجدهما في متن الشعر.
إلا أن شعراء شبه الجزيرة، نجحوا في واحدة من أخطر رهانات الحداثة؛ الدين بما هو كليّ الوجود هناك، داخل القصيدة. يكتبُ حامد بن عقيل: "كان يصلّي، كان وحيداً مجدولاً في الخشيةِ والألفةِ والتكوين. وكان يصلّي. يمضي في أوّل ينايرَ بالسنة الميلاديةِ حتّى أقصاها. كمسيح من نورٍ راحَ يحب الميلاد، بريئاً يرسمه في بدءِ النسوة أو يرمي فاصلةً تهواهُ فتتركه مريمُ منسياً كالنشوة، كأقدارِ الفقراءِ على اللوح المحفوظِ ليندبَ قلبَه".
وفوق هذا، هم يجيدون كأسلافهم الجاهليين، كتابة النسيب، هذا الشفيف شبه الغائب عن شعرنا، يكتب أحمد الملّا: "ينفتحُ الحشد إلى صفَّين/ تعبرُ امرأة في لباسٍ أشدّ سوادا/ تكادُ المعاطف حوله أن تصبحَ بيضاء،/لم أستدلّ على جنسها إلا من كعبٍ عالٍ / يوازي طول ساق فلامنكو / ومن تمايلِ جسدِها الناحل والممتلئِ الحوض/ تقفُ لصقَ الثقب /تسدُّهُ فلا أرى/ وفجأة تخزُّني بنظرة من عينِها مثلَ مخرز عجوز/ تجيدُ غرزتَها ولا تخطئ".
شعرُ شبه الجزيرة فتنةٌ وسحر.
بيد أن الحداثة الشعرية في ذاك الزمان، كانتْ مشرقيّة إن صحّ التعبير، فدمشق وبغداد شهدتا خروجًا موفقًا وأصيلًا عن تلك النصوص الساحرة التي لن يبطل فعلها في النفوس؛ المعلّقات المذّهبات الفاتنات. ولعلّها بقيتْ مشرقيّة المنبت؛ "الأمويون والعبّاسيون"، وسليلته كما في الزواج الفريد بين الأمويين وشبه الجزيرة الإيبيرية؛ الأندلس.
ونظرًا إلى قدم إرثنا الشعري، أعاد التاريخ نفسه في مصادفة حداثيّة: الشعر العربي الحديث مشرقيّ المولد ثانيةً. وللولادات الحاسِمة صخبها وضجيجها، تمشي في دروب النقدِ المتعرّجة بين الرفض والقبول بدايةً، قبل إدراك سياق الجديد والحداثي، بغية وضعه لصقَ القديم في سلسلةٍ شعريّة لا تنقطع.
كذا كان أمر الشعر العربي الحديث، المشرقيّ ولادةً. بيد أن غبار أسئلته الأولى، الزائدة احيانًا، لم يصلْ، لحسن الحظّ، بزخمه إلى بلاد الرّمل والشمس الحارقة والواحات، البلاد المحاطة بضفّتين من ماء البحار؛ شبه الجزيرة.
فحتّى لو أراد النقد التأريخي، النظرَ في التجارب الشعرية المبكّرة هناك، أو تلك التي من أمسٍ قريبٍ في الربع الثالث من القرن المنصرم، إلا أن التجارب الأخيرة تبدو أكثر تألّقًا، لأنها تتمثّل بحقّ، روح شبه الجزيرة.
القصيدةُ ها هنا مترفعةٌ عن لعبة الشدّ والجذب الشهيرة بين "الأصالة" و"الحداثة". فهي تأخذُ من القديم جوهره، ومن الحديث تقنياته الفنيّة، تمزج بينهما ببراعة وأصالة في آن معاً، وبطريقةٍ مخصوصة. إذ لعلّها المرّة الأولى التي يكون فيها لأثر العامِل المحليّ، كلّ هذا الزخم الجميل. المكان بإرثه الخاصّ حاضرٌ في القصيدة، وفي الاستناد إليه بشكلٍ يكادُ يكونُ عفوّيًا، ما يمنح الشعر نكهة عذبة وجريئة.
كيف لشاعر من هناك، إلا أن يكون متحدّيًا؟ فهي أرضُ المقدّس والوثني (قبل الإسلام) معًا. كذا تتسرّب مفردات من الحقلين اللغويين إلى القصيدة. لكن، خلافًا لشعراء الحداثة العرب، نادرًا ما نجد اسم شاعرٍ جاهليّ يزور قصيدة شاعرٍ سعودي، فأهلُ المكان يعيشون في منبت المعلّقات، يتنفسون هواءه، ولا حاجةَ لهم لتعيين أسلافهم، فقد تمثّلوا سحرهم. يكتب محمّد الحرز: "المكانُ وثنيٌ بالضرورة".
هي جرأةٌ هادئة لكن مكينة النبرة، لا صخبَ فيها ولا زمر، ففي الميل نحو قصيدة النثر ما يناسبُ هذه النبرة الراسخة، التي لا تني تزيدُ من جرعة الالتباس بين العالمين : المقدّس والوثني. ألم يكن النثر حاضرًا في مخيلة الجاهليين آن استمعوا إلى القرآن الكريم؟ ففتنتهم تلك الإيقاعات التي تغازل إيقاعات الشّعر من دون أن تبتلّ بها، بلى فتنتهم. وهم بدورهم غنموا كلام الرسول الأجمل: "إن من البيان لسحرا".
شاعر شبه الجزيرة جريء في استعماله مفردات الحقل اللغوي الديني، إذ إن المقدّس متغلغلٌ في ثنايا المكان وروح أهله، يكتب حمد الفقيه: "في الناحيةِ الأقل اكتراثاً منْ أيّ نصٍ/- هناك - ما يجب أن يكون مياهًا تُلامِسُ/ طَرِيقَةَ الإيْمَان – هُناك – من يجبُ أن/ نراهم بعاداتهم القديمة وأيديهم الخشنة/ وهم يَدفَعُونَ عن يَقِينهم الشِّعريّ بِحياةٍ/ كتلك التي نَصنع مَاضِيْها من وجَاهةِ أَخطَائنا؛ أَنا / مَع تِلك النّزعةِ الفقِيْرة لنِهَايَاتٍ سَعِيْدةٍ بقِيْمَة أن تَكُونَ مِسمَاراً صغيراً في/ سَفينة نِوح. إلى هَذا الْحَدِّ؛ يَكونُ الإيْمَانُ نَاتجاً/ لِحِسْبَةِ أُمّهاتِنا البَسِيطَةِ مع فَرقِ ذلك/ الْحِسّ الدّراميّ لِمُلصقٍ عن الآخرةِ".
وبقدر ما تبدو قصائد شبه الجزيرة حاملةً لهموم ومشاغل شخصيّة، فإنها تنهضُ لا بصوت الجماعة، بل بصوتٍ يتمثّل الوجدان الجمعي، ما يوسّع أفقها ويزيد في رحابتها. وحين يحضرُ المقدّس في قصيدة شاعرٍ سعودي، لا يبدو الشعر دينيًا على الإطلاق، ففي تراثنا العربي شعرٌ ونظمٌ دينيان، بقيا في أماكن العبادة والصلاة، ونادرًا ما نجدهما في متن الشعر.
إلا أن شعراء شبه الجزيرة، نجحوا في واحدة من أخطر رهانات الحداثة؛ الدين بما هو كليّ الوجود هناك، داخل القصيدة. يكتبُ حامد بن عقيل: "كان يصلّي، كان وحيداً مجدولاً في الخشيةِ والألفةِ والتكوين. وكان يصلّي. يمضي في أوّل ينايرَ بالسنة الميلاديةِ حتّى أقصاها. كمسيح من نورٍ راحَ يحب الميلاد، بريئاً يرسمه في بدءِ النسوة أو يرمي فاصلةً تهواهُ فتتركه مريمُ منسياً كالنشوة، كأقدارِ الفقراءِ على اللوح المحفوظِ ليندبَ قلبَه".
وفوق هذا، هم يجيدون كأسلافهم الجاهليين، كتابة النسيب، هذا الشفيف شبه الغائب عن شعرنا، يكتب أحمد الملّا: "ينفتحُ الحشد إلى صفَّين/ تعبرُ امرأة في لباسٍ أشدّ سوادا/ تكادُ المعاطف حوله أن تصبحَ بيضاء،/لم أستدلّ على جنسها إلا من كعبٍ عالٍ / يوازي طول ساق فلامنكو / ومن تمايلِ جسدِها الناحل والممتلئِ الحوض/ تقفُ لصقَ الثقب /تسدُّهُ فلا أرى/ وفجأة تخزُّني بنظرة من عينِها مثلَ مخرز عجوز/ تجيدُ غرزتَها ولا تخطئ".
شعرُ شبه الجزيرة فتنةٌ وسحر.