في كتابه "بين اللفظ والصورة.. تعدّدية الحقائق وفرجة الممكن"، الصادر حديثاً عن "المركز الثقافي العربي"، يشير بنكَراد إلى أن الإنسان جزء من الطبيعة في الظاهر فقط، "أمّا في حقيقتنا فنحن منتجات التمثيل الرمزي بكل واجهاته؛ في اللغة والصور والرسوم، وفِي كل الوقائع الاجتماعية التي نعدّها لكي تكون دالة على احتفائنا بما أضافته الثقافة إلى ذاكرتنا".
من هنا، عمل المؤلف في كتابه، الذي قسّمه إلى قسمين: الأول يتعلّق باللفظ وتعددية الحقائق، والثاني يرتبط بـ الصورة وفرجة الممكن؛ على رسم بعض السّبل الكفيلة بالكشف عن الطريقة التي تشتغل بها الوقائع النصية ببُعديها اللفظي والبصري، ومن خلالها أيضاً تحاول توجيهنا إلى غير ما تودّ قوله في الظاهر من أشكالها ومضامينها.
يقول بنكَراد: "ما تقوله الصورة لا يشكل حقيقة في العين، بل هو رحى صامتة تنتج استيهامات يجب أن تغطي على تفاصيل الواقع، وهي التي ستعلن عن ميلاد حقيقة جديدة ستكون سبيلنا الأوحد إلى المتعة والسعادة". فالغاية من الصور في عصرنا الراهن، بحسب الكتاب "هي الزجّ بالناس في صخب بصري بلا هوية ولا مؤلف ولا غاية سوى غايات التسويق ذاته. إن الصورة في هذا العصر منذورة، في أغلب حالات التواصل، إلى الترفيه الذي لا يحمل داخله سوى شيء واحد؛ هو التضليل".
يشدّد المُؤلف على أننا نعيش في الراهن تجربة بصرية تبدو جديدة، ظاهرياً على الأقل، وكأنها تُشكل قطيعة كلية مع عصور النظرة السابقة.
هنا بالضبط، يستحضر بنكَراد، المفكّر الفرنسي ريجيس دوبريه، الذي "تتوزّع النظرة عنده على عصور ثلاثة تستوعب حالات الوعي الوجودي للإنسان؛ إنها لحظات حاسمة في التاريخ البصري، تجسّدت في صورة العبادة والصورة الفنية والصور باعتبارها إحالة على نشاط اقتصادي بمردودية في السوق لا في العين".
لقد كان مصدر النظرة الأولى، هو فكرة البحث في المرئي ذاته عن شيء ما لا تدركه الأبصار، ثم تجسّدت في مرحلة ثانية في الأيقونات ذات الطابع الديني الصريح. ومن ثمة فهذه الأيقونات في الحالتين معاً، ممر ضروري نحو اللامرئي أو هو خلفية له. أما في العصر الثالث (العصر البصري)، فإن النظرة تتميّز بكونها رؤية بلا نظرة؛ لأن الصورة فيه تكتفي ببيع السلع والأفكار والخدمات والـ "لوك"، وتحيل من خلال ذلك كله، على حالات انفلات حسي تتناسل داخله الرغبات وتعيد إنتاج نفسها في شكل مواد للاستهلاك تُلقى في القمامة.
لهذا، وفيما يتعلّق أساساً بطبيعية الصورة الحالية، ومجمل السلوكات المرتبطة بها، أي مجمل الأشكال التواصلية الجديدة، يعتبر الباحث المغربي في السيميائيات، أن "الصورة تحيلنا على عالم الافتراض وحده، أما الواقع فهو من ابتداع التقنيات، ذلك أن المعنى لا يودع في الممثّٓل، بل يأتي من العين التقنية ومعجزات الـ فوتوشوب".
في هذا الجانب تحديداً، يتحدّث الكتاب عن ظهور أنا رقمية، لا وجود لمعادل لها في الواقع، بل هي نتاج صورة السيلفي. "ففي زمن السيلفي، لا قيمة للأنا الحقيقية التي تعيش في الزمن الفعلي، فهذه ليست سوى نظير وهمي مُوَجهة، من خلال الاستنساخ البصري، لكي تعيش ضمن زمنية أخرى لا تحتكم إلى قيم اليومي".
هنا نُخلّص الذات من عناصر الواقع الذي يحيط بها، "أي نُصَفيها من كلّ ما علق بها من قيم وأخلاق، لكي لا تحتفظ سوى بالمرئي فيها. إن الحقيقة لا توجد في الواقعي، إن مصدرها هو النظرة والعين"، يوضح الباحث.
ويضيف، أن صاحب السيلفي "موجَّه إلى أمام لا يتوقف أبداً، إنه يسير نحو حتفه من خلال استنساخ الظاهر فيه، إنه يتشبث يائساً بما لا يمكن أن يستمر". لذلك قد تحيل موضة السيلفي بطريقة مذهلة على الظلال المنعكسة على جدران كهف أفلاطون، لا يرى الناس في هذا الكهف الحياتي سوى أخيلة لا تتبيّن العين حقيقتها إلا في ظلام الشبكة.
نفس الأمر قد يقال، بشكل أو بآخر، عن الصورة الإشهارية، خصوصاً أن الكاتب يعتبر أنه "لا يُمكن أن نمسك في الصور الإشهارية بموضوع حقيقي، بل بصورة منه، تماماً كما لا نمسك من اللحظة بسعادة فعلية، بل بما يوحي أو يوهم بها".
هذا يعني، أن "الإشهار لا يُخبر، بل يُسرب، من خلال المنتج وفضائله المحتملة، عوالم مخيالية تحتفي بالافتراض وحده في النفس والوجدان. (...) فالنائم في الوجدان ليس سوى رغبات بسيطة تحوّلت مع الزمن إلى شغف جارف، أو هوى يبحث عن إشباع لا يمكن أن يتحقّق إلّا ضمن ما توحي به الوصلة الإشهارية أو تَعِد به".
فعلى عكس ما توهم به واقعية الصورة، بحسب سعيد بنكَراد، "فإن ما يلتقطه المستهلك هو إيحاءات المنتج لا وظيفته المباشرة، لا يتعلق الأمر بنظرة نقدية تكشف عن المعاني الثانية المخبأة فيها، بل باستبصار لا شعوري ينفُذ عبر مسام الرؤية إلى دهاليز الروح المظلمة. (...) يقذف الإشهاري بالمستهلك داخل عالم مزيّف".
يتحدث بنكَراد، في كتابه "بين اللفظ والصورة"، عن السيميائي الفرنسي رولان بارت، الذي حاول من خلال ما سماه "المعنى الثالث" أو "المعنى المنفلت"، مأسسة إحساس خاص يتجاوز البصري بكلّ معادلاته اللفظية التي تقلّص من امتداده، بحيث يمكن مع هذا المعنى الانفلات من التشخيص العيني لكي نستوطن استيهامات الصورة.
لذلك فإن هذا المعنى حكر على الأعمال الفنية البصرية، التشخيصية وحدها، الفوتوغرافيا في المقام الأول، وما يمثل للوجه على الخصوص، ويستثني منها خصوصاً الصورة الإشهارية.