مؤشرات متضاربة داخلياً
وجدت المعارضة في سفر الرئيس للعلاج أو "إجراء فحوصات طبية دورية" بحسب البيان الرسمي، الفرصة لإثبات صحة طروحاتها بشأن ضرورة عدم توليه ولاية رئاسية خامسة، وعجز الرئيس عن إدارة شؤون الحكم والبلاد والحاجة إلى تغيير سياسي راهن أو في إطار الانتخابات الرئاسية المقبلة.
على الجهة الأخرى، كان ملاحظاً أنه قبل أيام من الإعلان عن سفر بوتفليقة إلى سويسرا خففت الأطراف الداعية لترشح الرئيس بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة من مناشداتها له بهذا الشأن، إذ عمد قادة الأحزاب الموالية للرئيس إلى تعديل خطابهم السياسي. للمرة الأولى يتحدث الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، أنه في حال قرر بوتفليقة عدم الترشح، فإن الحزب ينتظر منه الإشارة عليه بخليفته لتزكيته، حسب ما أعلنه في ندوة صحافية نظمها قبل أسبوع. بدوره لم يخرج رئيس حزب التحالف الجمهوري، مساعد وزير الخارجية الأسبق، بلقاسم ساحلي، عن هذا المسار، إذ قال في تصريح صحافي قبل أيام إن حزبه "يضع في الحسبان سيناريو التوافق مع أحزاب الموالاة على مرشح موحد في حال قرر بوتفليقة عدم الترشح". وبحسب ما نقل عن الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، عمارة بن يونس، في حوار مع موقع محلي، فإنه "ليس من حق أحد الضغط على الرئيس للترشح في 2019".
لا تنفصل هذه المؤشرات عن معطيات أخرى ذات صلة بالغموض المحيط بشأن الرئاسة. قبل أيام أعلنت سلسلة تغييرات، باسم الرئيس عبد العزيز بوتفيلقة، طاولت مناصب حساسة في أعلى هرم الجيش. التغييرات نفذها قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، واعتبرها "طبيعية وتدخل في إطار تداول المناصب العسكرية" (رغم أن القيادات العسكرية التي لم تم تغييرها شغلت مناصبها فترة أقل بكثير من قائد الأركان الذي عين قبل 14 عاماً في منصبه). وتعزز هذه التغييرات الشكوك في قدرة الرئيس بوتفليقة فعلياً على إجراء تغييرات في مستوى كهذا ودراسة سيرة القيادات الجديدة أو إقالة أخرى. كما أنها تزيد الشكوك حول هيمنة قائد أركان الجيش على القرار في المؤسسة العسكرية.
وفي السياق، يعتبر المحلل السياسي مروان الوناس، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "من الغرابة أن يجري الرئيس تغييرات في الجيش في نفس اليوم الذي يغادر فيه للعلاج في الخارج". وبالنسبة إليه فإن هذا الأمر "يزيد من الشك الغربي والدولي حول من يدير شؤون الحكم في البلاد، ويؤكد ضعف مؤسسة الحكم، على الرغم من محاولات الطمأنة التي ترسلها السلطة لشركائها في العالم".
لكن الباحث في الشؤون السياسية مبروك كاحي، يطرح في حديث مع "العربي الجديد" قراءة أبعد من ذلك لكنها تصبّ في خانة تأكيد العجز السياسي للرئيس عن إدارة شؤون الحكم. ويعتبر أن سفر بوتفليقة للعلاج، قد يكون محاولة منه للإفلات من ضغوط المؤسسة العسكرية وقائد أركان الجيش الذي يحاول استغلال الوضع الصحي للرئيس لإجراء أكبر تغييرات ممكنة في هرم الجيش والمراكز الحساسة تمهيداً للمرحلة المقبلة، في مقابل توفير دعم الجيش لخيارات الرئيس بوتفليقة ومحيطه، سواء قرر الترشح لعهدة خامسة أو اختار خليفة له في حال تردى وضعه الصحي. وبرأيه "يمكن تفسير سفر الرئيس للخارج بأنه خطوة للهروب من ضغط المؤسسة العسكرية بعد عملية المساس بأبرز ركائزها، وجعلها إما تقبل الأمر الواقع، أو أن يرفض الرئيس قرارات قائد الجيش بشأن تغيير القيادات، وهذا في حد ذاته مأزق حقيقي".
مخاوف غربية
لكن النقاش بشأن قدرة الرئيس بوتفليقة على إدارة الحكم وشؤون الدولة والتشكيك في سلسلة قرارات سيادية تخص الشأن السياسي والعسكري اتخذت في الفترة الأخيرة، يتجاوز بعده المحلي، إذ إن الثقل السياسي والإقليمي للجزائر وملفي الطاقة ومكافحة الإرهاب، يدفع الشركاء الغربيين لمراقبة التطورات والاهتمام بكل المؤشرات الداخلية المتصلة بالتغييرات الحاصلة في المؤسسة العسكرية والسياسية.
وفي السياق، يقول مصدر دبلوماسي غربي، رفض الكشف عن هويته، في لقاء مع "العربي الجديد"، إن "الجزائر بلد كبير ومهم ومن الطبيعي أن يكون للعواصم الغربية كلها اهتمام بالجزائر وبكل التطورات، الجزائر ليست تشاد أو نيكاراغوا، في الحقيقة دائماً لدينا شكوك في قرارات وسياسات تتخذ ثم يتم التراجع عنها سريعاً، واضح أن صحة الرئيس بوتفليقة ليست على ما يرام وفي السياسة يجب حساب المفاجآت والعواقب دائماً". ويضيف "في لقاءاتي كدبلوماسي مع المسؤولين الجزائريين أشعر بأن هناك غموضأ بشأن صحة الرئيس ومخاوف وتشوشاً بشأن الانتخابات المقبلة".
لكن الباحث في الشؤون السياسية، مبرك كاحي، يعتبر أن "العواصم الغربية تتابع وتملك تقارير من خلال سفارتها الموجودة في الجزائر بأن صحة الرئيس لست جيدة وغير مستقرة وقد تسوء في أية لحظة، لذا العواصم الغربية لديها وتبحث دائماً عن تطمينات بشأن مصالحها وأن الحكم سيتم الحسم فيه بطريقة أو بأخرى".
الاهتمام الغربي، والفرنسي تحديداً، بأفق الانتخابات الرئاسية في الجزائر سابق للتطورات الأخيرة. مجلس الشيوخ الفرنسي، على سبيل المثال عقد في شهر مايو/أيار الماضي جلسة خاصة للاستماع لتقرير أعدته لجنة مشكّلة من أعضاء في المجلس حول الوضع الصحي لبوتفليقة وإمكانية توجهه للترشح لولاية رئاسية خامسة وطبيعة الصراعات الراهنة.
كما خلص التقرير الذي قدمه رئيس لجنة الشؤون الأوروبية، النائب في مجلس الشيوخ الفرنسي عن الحزب الاشتراكي، سيمون سيتور، في أغسطس/آب 2017، إلى أن "الرئيس بوتفليقة يتمتع بشرعية حقيقية، اكتسبها في أعقاب العشرية السوداء، ومن غير المستبعد أن يترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة"، مشيراً إلى أن "السلطة في الجزائر تتخوف فعليا من ربيع عربي في البلاد، لكنها لا تواجه أية ضغوط شعبية حقيقية تدفع بالنظام نحو التطور أو تغيير السياسات".
يفسر مراقبون الاهتمام والترقب الغربي بالأوضاع في الجزائر والانتخابات الرئاسية المقبلة بأنه يرتكز على عوامل سياسية وأمنية واقتصادية عدة، بالنظر إلى أهمية الجزائر كدولة محورية ضامنة للأمن والاستقرار في منطقة المغرب العربي، وكشريك فاعل في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل ومحاربة الهجرة السرية في الضفة الجنوبية للمتوسط المقابلة لأوروبا. لكن ثمة ملفاً يحظى بقدر كبير من الأهمية لدى الدول الغربية، ويتعلق بملف أمن الطاقة، إذ تموّن الجزائر عدداً كبيراً من الدول الأوروبية بالغاز عبر أنبوبي إسبانيا وإيطاليا.
وبرأي الخبير في الشؤون السياسية الجزائرية، نصر الدين بن حديد، فإن "سفر الرئيس بوتفليقة للعلاج في سويسرا في ظل احتدام النقاش في البلاد حول الانتخابات الرئاسية المقبلة وفي زمن ظهور وباء الكوليرا في البلاد، بالتأكيد يزيد من حال التوتر ويرفع من منسوب الغموض. كما أكد أنه يعمق القلق لدى القوى الغربية، خصوصاً في ما يتعلق بالخوف على الاستقرار الاجتماعي والسياسي لبلد مهم بالنسبة لأوروبا، والخوف من أن يؤدي زعزعة استقرار الجزائر أو حدوث تغييرات غير منضبطة إلى مشاكل داخلية تخلق توترات قد لا تعفى أوروبا من تداعياتها". ويشير إلى أن "مجمل هذه التطورات تزيد من حالة الشك وتأثيراته على الاستقرار السياسي، وعلى أفق الانتخابات الرئاسية سواء ترشح الرئيس بوتفليقة من أساسه أو لم يترشح، وعلى الصراع الدائر بين الطامحين والطامعين في منصب رئاسة الجمهورية".