سقوط رمز المافيا الإيطالية "ندرانغيتا"... حدث سياسي أولاً

30 يونيو 2016
أنصار حركة "ليبيرا" المضادة للمافيا في بولونيا (ماريو كارليني/Getty)
+ الخط -
ثلاثية السياسة ـ الدين ـ المافيا، تبقى الأصلب في إيطاليا، رغم كل المتغيرات الجيو ـ سياسية في أوروبا أو في المقلب الآخر من البحر المتوسط. بالتالي ليس غريباً أن تعلن السلطات الإيطالية، إلقاء القبض على أخطر زعماء المافيات، بعد نحو أسبوع على هزيمة "الحزب الديمقراطي" الحاكم بلدياً، تحديداً في العاصمة روما وتورينو، أمام النجم الصاعد... "حركة النجوم الخمس".

يوم الأحد، أعلنت السلطات الإيطالية اعتقال إرنستو فاتسالاري، زعيم مافيا "ندرانغيتا"، أحد أخطر تنظيمات المافيا الإيطالية، بعد عشرين عاماً من التواري. وأفاد بيان صادر عن وزارة الداخلية الإيطالية، بأنه "تمّ القبض على فاتسالاري (46 عاماً) المحكوم عليه غيابياً بالسجن مدى الحياة، في شقة قرب مدينة ريجيو كالابريا (جنوب شرق البلاد)"، والتي تُعدّ معقل "ندرانغيتا".

وكان فاتسالاري قد توارى عن الأنظار منذ العام 1996، وأُدين بالسجن المؤبد في العام 1999، لضلوعه في تشكيل جمعيات تابعة للمافيا، والقتل الجماعي، والاختطاف، وحيازة الأسلحة النارية من دون ترخيص. يعتبر الرجل من سلالة رجال المافيا التقليديين، الذين أرعبوا إيطاليا في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من باليرمو ومسينا إلى نابولي وروما.



لم يدع رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتزي اعتقال فاتسالاري، يمرّ من دون الإدلاء بموقف ما، فنشر تغريدة على موقع "تويتر"، مشيداً فيها بـ"فضل القضاة وإنفاذ القانون"، ومعتبراً بأن "إيطاليا مستمرة في الحياة". وفي ذلك إشارة إلى دورٍ للتغطية السياسية التي يؤمنها حزبه للجسم القضائي ضد المافيا. يعلم رينتزي أن "المافيا" عنوان جذاب لاستقطاب الناخبين، تحديداً أبناء ريجيو كالابريا، ونابولي، وصقلية، أي الذين يعانون بالأكثر من نفوذ المافيات وسطوتها. بالتالي يعمل رينتزي، انطلاقاً من تلك المكاسب، لإحكام سيطرته السياسية، وفرملة الصعود السياسي والاجتماعي لـ"حركة النجوم الخمس"، أقلّه حتى تمرير التعديلات الدستورية التي يسعى لأجلها، في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. في الواقع إن فاتسالاري تحديداً، سيكون "ناخباً" غير مباشر في سياق محاولات رينتزي النجاح في الخريف، وديمومته في الحكومة.

أساساً لم تتمكن إيطاليا من التحرّك قضائياً ضد المافيا، سوى بفعل حملة "الأيادي النظيفة" التي شنّتها السلطات القضائية الإيطالية، مطلع التسعينيات، ضد مئات من عناصر المافيا والمستفيدين منهم، من قضاة ومحامين ورجال شرطة وسياسيين وأحزاب ورجال اقتصاد. كلّفت "الأيادي النظيفة" قتلى عدة، أبرزهم القاضيان، جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو، مع إصرار المافيا على المواجهة. انتهت الحملة باندثار أربعة أحزاب، بأوقات مختلفة، وهي: الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الإيطالي، والحزب الديمقراطي الاشتراكي الإيطالي، والحزب الليبرالي الإيطالي، بينما نجا كل من الحزب الجمهوري الإيطالي، والحزب الديمقراطي اليساري، والحركة الاجتماعية الإيطالية. لم يفت الأميركيين الإشارة، باعتراف سفيرهم في روما في ذلك الحين، ريجينالد بارتولوميو، بالقول إن "الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) ساهمت في دفع السلطات القضائية لمحاربة المافيا". دور "سي آي إيه" يظهر مجدداً في البرازيل حالياً، على خلفية قضية "غسيل السيارات" وارتباط شركة "بتروبراس" النفطية بأكبر موجة فساد في تاريخ أكبر دولة في أميركا الجنوبية.

الآن، ما يفعله رينتزي، يبدو معاكساً تماماً لما فعله زعيم "فورزا إيطاليا" سيلفيو برلوسكوني، أواسط التسعينات. وصل برلوسكوني إلى السلطة، بعد عام ونيّف على تأسيسه الحزب، وكانت حملة "الأيادي النظيفة" قد وصلت إلى خواتيمها، ما أدى إلى تدشين مرحلة الاستئنافات القضائية والأحكام التخفيفية، ليخرج بعض "صغار" رجال المافيا من السجون، ويُصبحوا "ظلال" برلوسكوني في عالم الأعمال. الفارق بين الرجلين أن رينتزي يسجن رجال المافيا لزيادة رصيده الشعبي، أما برلوسكوني فأطلقهم للحصول على الأمر عينه. 

أما منظمة "ندرانغيتا" فمتواجدة في ألمانيا، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وبلجيكا، وسويسرا، وكندا، والولايات المتحدة، وكولومبيا، والمكسيك، وأستراليا، وتُعتبر وريثة لـ"كوزا نوسترا"، أشهر مافيا إيطالية. وقد سيطرت "ندرانغيتا" على الأسواق السوداء، تحديداً غسيل الأموال وتجارة العقارات غير المشروعة والإتجار بالمخدرات، إذ تُشكّل تجارة الكوكايين حوالي 62 في المائة من دخلها السنوي الذي يُقدّر بـ 44 مليار يورو. كما "تُساهم" بـ3 في المائة من الناتج المحلي الإيطالي، وفقاً لما أدلى به مسؤول أميركي، بحسب وثائق "ويكيليكس" في العام 2011. واتهم المسؤول الأميركي وزير الداخلية وقتها، روبرتو ماروني، بـ"عدم القيام بما يتوجب عليه للقضاء على ندرانغيتا في ريجيو كالابريا".

لا تتوقف "إنجازات" المنظمة هنا، ففي أستراليا تُسيطر 31 عائلة متحدّرة ومتفرّعة ومرتبطة بخمس عائلات لـ"ندرانغيتا" في ريجيو كالابريا، على 60 في المائة من تجارة المخدرات في أوقيانيا. وكبار مموّلي "الإكستازي" في سيدني وكانبيرا هم من "ندرانغيتا". كما أن المنظمة متوّرطة في مسألة اللجوء، فاللاجئين الآتون من أفريقيا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، يُنقلون إلى البرّ الإيطالي. وهنا يأتي دور "ندرانغيتا" لتوظيفهم لصالحها مقابل الأموال والوعد بمنحهم "حق الإقامة". وهو النموذج نفسه الذي اتُبع في مدينتي نيويورك وشيكاغو الأميركيتين، مطلع القرن العشرين، حين كانت المافيات تنتظر المهاجرين لتوظيفهم في حروبها الداخلية وضد الشرطة، أو لتشغيلهم في الأسواق السوداء.

الحجم الذي بلغته المنظمة وتوسّعها العالمي، يكفي لإظهار "جرأة" القضاء الإيطالي و"قوة" رينتزي، كفعل سياسي، أكثر منه نية في تحقيق العدالة، بإلقاء القبض على فاتسالاري، الذي وللمفارقة، كان في منطقته حين أُمسك به، لا خارجها.   


دلالات