بعد سبع سنوات على الثورة التي تحوّلت إلى صراع على سورية، أصبحت البلاد حطاماً أو تكاد، حيث لم يعد للسوريين، موالاةً ومعارضةً، أي دور في راهن بلادهم وربما مستقبلها. شرّع النظام أبواب سورية للمحتلين الذين بدأوا بتوزيع غنائم الحرب السورية عليهم.
وتبدو الولايات المتحدة الأميركية أبرز الخاسرين في سورية أخلاقياً، وأهم الرابحين على الصعيد العسكري وفرض النفوذ، إذ وضعت يدها على نحو ربع الجغرافيا السورية من دون أن تنخرط مباشرة في الحرب. دعمت قوات "سورية الديمقراطية" (قسد) التي يشكّل مقاتلون أكراد عمادها وقيادتها، حتى باتت تلك القوات تسيطر على جلّ منطقة شرق الفرات التي تعدّ "سورية المفيدة" بثرواتها المائية والزراعية والنفطية.
كذلك، تسيطر قوات "سورية الديمقراطية" اليوم على غالبية محافظة الرقة وكامل ريف دير الزور شمال نهر الفرات، وغالبية محافظة الحسكة، باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة. كما تسيطر على ريف حلب الشمالي الشرقي شرقي نهر الفرات، ومدينة منبج وجانب من ريفها غربي النهر. ولكن هذه المنطقة خرجت بعد سنوات من سيطرة تنظيم "داعش" عليها، محطّمة، خصوصاً أنّ طيران "التحالف الدولي" أزال مدينة الرقة بشكل شبه كامل عن الوجود، وشرّد عدداً كبيراً من سكانها، وباتت لا تصلح للحياة. وتسيطر "قسد" أيضاً على سلسلة قرى جنوب نهر الفرات والتي تمتد من مدينة الطبقة غرباً حتى مدينة الرقة شرقاً، على مسافة أكثر من 60 كيلومتراً. كما تحتفظ الولايات المتحدة بوجود لها في قاعدة "التنف" على الحدود السورية العراقية والتي أُنشئت في عام 2016.
من جهتها، تسيطر قوات النظام ومليشيات إيرانية تابعة لها، على مدينة دير الزور وكامل ريف دير الزور جنوب النهر، بما فيه مدينتا الميادين والبوكمال. كما تسيطر على جزء كبير من البادية السورية التي يحتفظ الروس بوجود لهم فيها، خصوصاً في مدينة تدمر قلب البادية السورية. كذلك، تسيطر قوات النظام والمليشيات الإيرانية على غالبية مدينة دمشق وريفها، حيث تحوّلت العاصمة ومحيطها إلى منطقة نفوذ لإيران ممثلة بـ"حزب الله" ومليشيات عراقية وأفغانية. ويسيطر "حزب الله" على كامل الحدود السورية مع لبنان من جهة ريف دمشق، بدءاً من القلمون الغربي، مروراً بوادي بردى وانتهاءً ببيت جن وسواها من بلدات حدودية مع فلسطين المحتلة. كما يسيطر الحزب اللبناني على كامل منطقة القصير في ريف حمص الجنوبي الغربي، حيث تحوّلت المنطقة إلى قاعدة عسكرية للحزب إثر تهجير غالبية سكّانها في عام 2013، عقب حملة عسكرية وضع الحزب فيها كل ثقله.
ولا يزال النظام يسيطر على مدينة حمص التي تعرّض نحو 18 حيّاً من أحيائها لتدمير من قبل قواته خلال عامي 2012 و2013، في حين لا يزال ريف حمص الشمالي تحت سيطرة قوات المعارضة السورية وخصوصاً الرستن وتلبيسة والدار الكبيرة، إضافة إلى سهل الحولة وقرى عدة أخرى.
وتفرض قوات النظام سيطرة جزئية على محافظة حماة وسط سورية، حيث تسيطر على مدينة حماة مركز المحافظة وغالبية ريفها، في حين أنّ المعارضة لا تزال تسيطر على جزء كبير من ريف المحافظة الشمالي والشمالي الغربي. وتحتفظ إيران بقاعدة مهمة في منطقة جبل زين العابدين شمال غربي حماة، فيما تتمركز قوات روسية في مطار حماة العسكري الذي كان ولا يزال أهم مطارات النظام التي تقلع منها الطائرات والتي قتلت عشرات آلاف المدنيين.
وتعدّ منطقة الساحل السوري منقطة نفوذ واضحة للروس، حيث أقاموا قاعدة عسكرية كبرى في مطار حميميم العسكري في ريف اللاذقية، ومنها تنطلق الطائرات التي تجوب سورية وترتكب المجازر بحق السوريين منذ أواخر عام 2015. كما يحتفظ الروس بقاعدة بحرية في مدينة طرطوس على الساحل السوري، في إطار اتفاق طويل الأمد مع النظام، الذي منح الروس وجوداً دائماً في سورية، مقابل حمايته عسكرياً وسياسياً في المحافل الدولية.
وفي جنوب البلاد، تحوّلت محافظة درعا إلى منطقة نفوذ أردني أميركي، حيث ترتبط فصائل الجبهة الجنوبية التابعة للمعارضة السورية بالعاصمة الأردنية عمّان. وتسيطر المعارضة على جزء من مدينة درعا وريفها، فيما لا تزال محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية مدينة وريفاً تحت سيطرة النظام، مع وجود نفوذ إيراني في المحافظة من خلال مليشيات محلية تابعة لها تمويلاً وهدفاً.
وفي شمال وشمال غربي سورية، تقع محافظة إدلب بالكامل مع ريف حلب الغربي، تحت سيطرة المعارضة السورية وهيئة "تحرير الشام"، حيث تحتفظ تركيا بنفوذ واضح فيها من خلال الفصائل المرتبطة بشكل كامل بأنقرة، التي باتت على وشك السيطرة على منطقة عفرين شمال غربي سورية، حيث يخوض الجيش التركي وفصائل معارضة عملية "غصن الزيتون" ضد الوحدات الكردية.
كما تسيطر تركيا على مناطق واسعة من ريف حلب الشمالي الشرقي، إثر طرد تنظيم "داعش" منه في عام 2016، في سياق عملية "درع الفرات" التي انتهت بالسيطرة على مدن جرابلس والباب، وبلدات مهمة مثل الراعي ودابق. كذلك، تفرض أنقرة سيطرة غير مباشرة على مدينة أعزاز، كبرى مدن ريف حلب الشمالي، التي تقع تحت سيطرة فصائل معارضة سورية مرتبطة بالجيش التركي.
وبذلك، تحوّلت سورية بعد سبع سنوات من الحرب، إلى نموذج صارخ لـ "الدولة الفاشلة"، إذ لا سلطة للنظام ولا للمعارضة عليها، بعد أن تحوّل مفتاح القرار والمصير إلى دول إقليمية ودولية تبحث عن مصالحها وسط مأساة السوريين، التي خلّفت ما يربو عن عشرة ملايين مهجّر ونازح، ونحو مليون قتيل، وأكثر من مليون معوّق، وملايين اليتامى، في مأساة لم يشهد تاريخ البشرية الحديث مأساة تضاهيها. ورغم ذلك، لا يزال النظام يرفض التوصّل إلى حلّ سياسي يمهّد الطريق أمام عودة اللاجئين والنازحين للشروع في إعادة إعمار البلاد، إذ لا يزال يحلم بإعادة السوريين إلى حكمه المستبد، فيما يؤكد المجتمع الدولي أنه لن يشارك في عملية إعادة الإعمار من دون حلّ سياسي يرضي السوريين جميعاً.
لقد كان النظام خلال السنوات التي مضت، أميناً لشعار أطلقه في بدايات الثورة السورية "الأسد أو نحرق البلد"، وهو ما تحقّق إلى حدّ بعيد، إذ تحوّلت سورية إلى حريق كبير يصعب إطفاؤه في المدى المنظور؛ حريق عسكري، سياسي، اقتصادي، اجتماعي وفكري. انشطر المجتمع السوري عامودياً وعمّت البغضاء وانتشر الحقد الطائفي والعرقي. مدن كاملة اختفت عن الأرض، وأحياء باتت أطلالاً لحلمٍ تواطأ العالم بأسره على وأده بالصمت المطبق على جرائم لم تُرتكب من قبلُ بحق شعب من شعوب الأرض. تحوّلت البلاد إلى ميدان تجارب للأسلحة الروسية والأميركية الفتاكة، وساحة تكاسر وكباش سياسي دفعت ثمنه دولة كان اسمُها سورية تقع شرقي المتوسط، اختفت أو تكاد عن الخارطة.