وضع الحراك الشعبي المتصاعد في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، العشائر العربية في شرقي وشمال شرقي سورية، في المنطقة التي باتت تعرف اصطلاحاً بشرق الفرات، في واجهة الحدث السوري، في ظل سعي جميع أطراف الصراع في سورية للسيطرة عليها. وتملك العشائر قوة بشرية هائلة، فضلاً عن الدور الاجتماعي والسياسي الذي لا يزال يؤديه شيوخها. وانقسمت ولاءاتها خلال سنوات الثورة ما بين نظام ومعارضة.
وجاءت محاولة اغتيال أبرز شيوخ العشائر في ريف دير الزور، وهو إبراهيم خليل عبود الجدعان الهفل، شيخ عشيرة العقيدات، أكبر العشائر العربية في هذا الريف، والتي أدت إلى مقتل أحد وجهائها، لتحرك مجمل القبائل والعشائر في منطقة شرق نهر الفرات، مع تنامي الشعور بمحاولات جديدة لتهميش العرب وإقصائهم عن رسم مستقبلهم في سورية، في الوقت الذي يتحيّن فيه النظام وإيران الفرص للانقضاض على المنطقة، وهو ما يشكل تهديداً جدياً على الوجود العربي برمّته في شرق سورية.
ولم يسبق أن واجهت العشائر العربية في شرق وشمال شرقي سورية تحديات تكاد تلامس بنيتها المتماسكة كما تواجه اليوم، حيث مضى النظام والإيرانيون شوطاً في مسعى لتغيير هوية هذه العشائر في الجزء الذي يسيطرون عليه، خصوصاً في محافظة دير الزور. بل إن هذا الجزء شهد أكبر موجة نزوح وهجرة في تاريخ القبائل العربية السورية. بينما تحاول "قسد" دفع العشائر للانخراط في مشروعها في شرق نهر الفرات الذي يُتهم من قبل معارضيه بأنه مشروع انفصالي، هدفه إنشاء إقليم ذي صبغة كردية في منطقة يشكل العرب غالبية سكانها.
وتعرضت العشائر العربية في شرق وشمال شرقي سورية، التي تعمل في الزراعة أو تربية المواشي، إلى تهميش وإقصاء من الأنظمة التي تعاقبت على سورية منذ استقلال البلاد في عام 1946، حيث لم تشهد المنطقة أي تنمية اقتصادية، ما دفع عدداً كبيراً من أبنائها إلى العمل في بلدان الخليج العربي، رغم أن المنطقة هي الأكثر غنى في سورية.
وفي شرق نهر الفرات وحوضه، تداخل قبلي وعشائري يمتد إلى العراق ودول الخليج. فالقبيلة الواحدة ينتشر أفرادها في عدة دول عربية، خصوصاً الكبيرة، التي يصل عدد المنتمين لبعضها إلى عدة ملايين. وقبيل اتفاق "سايكس ــ بيكو"، في العقد الثاني من القرن الماضي، كانت هذه العشائر تعيش في فضاء جغرافي واحد، حيث لم تكن هناك حدود ما بين الدول العربية. لكن هذا الاتفاق شطر العديد من القبائل والعشائر إلى شطرين، الأول صار تابعاً للعراق والثاني في سورية. وتشكل منطقة شرق نهر الفرات، التي تسيطر "قوات سورية الديمقراطية" عليها نحو ثلث مساحة سورية، وهي تضم كامل محافظة الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي من سورية، والجزء الأكبر من محافظة الرقة، وجزءا من ريف محافظة دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات، وقسما من ريف حلب الشمالي الشرقي، إضافة إلى مدينة منبج وبعض ريفها، والتي تقع غربي النهر.
تحاول "قسد" دفع العشائر للانخراط في مشروعها في شرق نهر الفرات
ولا تزال العادات القبلية العربية تحكم الجزء الأكبر من العلاقات الاجتماعية في الشمال الشرقي من سورية، رغم الانشطار الكبير الذي حدث مع انطلاق الثورة السورية في ربيع عام 2011، وما جرى خلال سنوات الثورة، حيث جرت تحولات كبرى مع انتقال المنطقة من النظام إلى فصائل الجيش السوري الحر و"جبهة النصرة"، ومن ثم تنظيم "داعش"، وصولاً إلى "قسد" شرقي وشمال النهر والإيرانيين جنوبه، مع ما يحمل ذلك من تبعات سلبية على البنية العشائرية في المنطقة الغنية بالثروات، والتي عانت من التهميش والإقصاء الممنهج على مدى نصف قرن من قبل نظام الأسدين.
الحسكة
تضم محافظة الحسكة، التي كانت العرب تطلق عليها قديماً تسمية "ديار ربيعة"، أهم القبائل العربية الممتدة في سورية غرباً والعراق شرقاً، لعل أبرزها الجبور، التي تضم عشرات العشائر ويقدّر عديدها بالملايين في سورية والعراق. وتعتبر هذه القبيلة من كبريات القبائل العربية. وتعد منطقة تل البراك في محافظة الحسكة المركز الرئيسي للقبيلة، التي يترأسها نواف المسلط، وهو ابن الشيخ عبد العزيز المسلط الذي كان له دور بارز في تاريخ سورية المعاصر. وانحاز ابنه الثاني سالم إلى صفوف الثورة السورية، وهو اليوم عضو في الائتلاف الوطني السوري. كما يمتد انتشار قبيلة الجبور إلى ريف الحسكة الجنوبي، خصوصاً منطقة الشدادي الغنية بالبترول. وتضم هذه القبيلة أكثر من 37 عشيرة ما بين كبيرة وصغيرة، أبرزها: الملحم، والشويخ، والمحاسن، والبوعميرة، والبوخطاب، والبوحسيني، والهزيم، والقضا، والعجيل، والمجامدة، والبوجابر، والصبح، والحسون، والبومهنا، والبومانع، وسواها من العشائر التي تنتشر في الشمال الشرقي من سورية.
وإلى جانب الجبور في الحسكة، هناك قبيلة طي، التي تنتشر في القامشلي، والتي يرأسها الشيخ محمد الفارس، وهو من أبرز الشيوخ الموالين للنظام السوري في منطقة شرق نهر الفرات. وتضم هذه القبيلة العديد من العشائر، لعل من أهمها: اليسار، والعساف، والجوّالة، والغنامة، وبني سبعة، وزبيد، والبوعاصي.
كما ينتشر في محافظة الحسكة، خصوصاً في منطقة اليعربية، جزء مهم من قبيلة شمّر العربية المشهورة، التي يرأسها الشيخ حميدي دهام الهادي الجربا، الموالي هو الآخر للنظام. وأسس الجربا مليشيا "الصناديد" المنضوية في صفوف "قوات سورية الديمقراطية". وإلى جانب هذه القبائل، التي يتفرع عنها عشائر، هناك قبائل أخرى في الحسكة، منها الشرابين المنتشرة في منطقة تل حميس وفي ريفي راس العين وتل تمر. كما تنتشر قبائل أخرى في محافظة الحسكة، منها قسم من البقارة، والعدوان، وحرب، والمشاهدة، والخواتنة، والملّية.
دير الزور
وفي ريف دير الزور الشرقي هناك العديد من القبائل العربية الكبرى، لعل أبرزها قبيلة العقيدات، وهي الأكثر عدداً في عموم محافظة دير الزور التي يتقاسم النظام والإيرانيون و"قسد" السيطرة عليها. وتضم قبيلة العقيدات العديد من العشائر، منها: الحسون، والشحيل، والهفل، والشويط، والبورحمة، والبوحسن، والقرعان، والحسون، والشعيطات، والدميم، والبو الخابور، والبوليل.
وإلى جانب هذه القبيلة الكبيرة، هناك قبيلة لا تقل عدداً وتأثيراً في محافظة دير الزور، وهي البقارة التي يتمركز ثقلها العددي في ريف دير الزور الغربي، وبعض المناطق في الرقة والحسكة. وتعرضت هذه القبيلة لجملة تطورات خلال الثورة، حيث كان شيخها نواف البشير من أبرز شيوخها الذين أعلنوا الولاء والدعم السياسي للثورة السورية، فتعرّض للاعتقال في سجون النظام قبل أن يخرج من البلاد، ليعود بعد ذلك بسنوات إلى سورية، معلناً ولاءه المطلق للنظام وتشكيله مليشيا تابعة إلى الحرس الثوري الإيراني. وأعلنت القبيلة تبرأها من البشير، وسحب المشيخة منه، ودفعتها إلى ابن عمه حاجم أسعد البشير المقيم في المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد" في ريف دير الزور الشرقي. وفي دير الزور هناك عدة قبائل أخرى، منها بني صخر التي ينتشر أبناؤها داخل مدينة دير الزور، وهناك العبيد، والبو بدران، والبوسرايا والقلعْيين.
الرقة
تعد قبيلة البوشعبان من أكبر القبائل في محافظة الرقة التي كان العرب يطلقون عليها تسمية "ديار مضر"، إلى جانب عدة قبائل أخرى وعشائر تنتمي إلى قبائل تنتشر في عموم منطقة الجزيرة السورية (المنطقة الواقعة بين الفرات ودجلة)، وحوض الفرات. وتعتبر عشيرة العفادلة من أكبر عشائر البوشعبان في محافظة الرقة، وتنتشر في مدينة الرقة ومحيطها. وتضم البوشعبان عشرات العشائر الكبيرة والصغيرة التي تمتد على مساحة جغرافية كبيرة تمتد من أطراف مدينة حلب الشرقية غرباً، وصولاً إلى محافظة دير الزور شرقاً. وفي الرقة عدة عشائر تابعة لقبيلة الجبور، أبرزها العجيل المنتشرة في عشرات القرى في ريف الرقة الغربي، إضافة إلى المجامدة في ريف الرقة الشمالي، خصوصاً في منطقة سلوك ومحيطها، وعشيرة البوجابر في ريف الرقة الغربي. وفي ريف الرقة أيضاً تنتشر قبائل أخرى بنسبة أقل، منها النعيم في ريف الرقة الشمالي، وجيس (قيس)، والبوعساف، والمشهور، والسبخة في ريف الرقة الشرقي. وفي ريف حلب التابع لمنطقة شرقي نهر الفرات، هناك امتداد كبير لقبيلة البوشعبان إلى جانب البوبنّا، وبني سعيد، والشيوخ، وعشائر أخرى.
لا تزال العادات القبلية العربية تحكم الجزء الأكبر من العلاقات الاجتماعية في الشمال الشرقي من سورية
وأوضح الكاتب السوري مضر حماد الأسعد، وهو مهتم بشؤون القبائل العربية في الجزيرة وحوض الفرات، أن عدد أبناء القبائل العربية في الجزيرة وحوض الفرات يصل إلى نحو 4 ملايين، يمثلون أكثر من 85 في المائة من سكان المنطقة التي تضم أيضاً الأكراد والتركمان والسريان، وبعض الأرمن والشركس. وأشار الأسعد، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن هذه القبائل "تواجه اليوم هجمة من أطراف متعددة تستهدف تفتيتها"، مضيفاً أن "القبائل العربية هي الركن الركين للعروبة والإسلام في سورية".
من جانبه، أوضح الكاتب السوري مهند القاطع، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هناك صورة نمطية عند الحديث عن القبائل العربية في المنطقة الشرقية من سورية"، مشيراً إلى أن "جميع العرب في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سورية، ينتمون إلى تشكيلات قبلية"، موضحاً "لكنهم جميعاً من سكان المدن أو القرى الزراعية في الأرياف، ما يعني أنه لم تعد هناك منظومات قبلية مركزية القرار، كما كان حال القبيلة قبل مائة سنة". وعن التحديات التي تواجه هذه القبائل، أعرب القاطع عن اعتقاده بأن هناك تحديات، وصفها بـ"الجسيمة"، تواجهها كما تواجه الأقليات في منطقة شرقي الفرات، كالأكراد والآشوريين والتركمان. وقال "تتمثل هذه التحديات في هيمنة مليشيات الأمر الواقع التابعة لحزب العمال الكردستاني (في إشارة منه إلى الوحدات الكردية المتهمة بكونها نسخة سورية من هذا الحزب والتي تشكل عماد قسد) على المنطقة ومقدراتها". وأشار إلى أن هذه الوحدات "تريد فرض مناهج تعليمية على النشء، خطيرة وغريبة عن ثقافة المنطقة وهويتها وتاريخها". وأعرب عن قناعته بأن هناك تحديات أخرى لا تقل خطورة، منها "محاولة تكريس سلطة هذه المليشيات، وفرض واقع سياسي جديد يهدد المنطقة، ويزرع بذور الفرقة ويعمق الشروخ الاجتماعية بين السكان". وأشار إلى أن من جملة التحديات "عمليات التغيير الديمغرافي، بفرض قرارات غير شرعية للسيطرة على أملاك الغائبين والمهجّرين قسرياً"، مضيفاً "لا يزال الخطر يتهدد المنطقة، مع محاولة إقصاء السكان الأصليين عن إدارة شؤونهم، وجعلهم أحجاراً في مشروع تديره عصابة أجنبية، وأعني حزب العمال الكردستاني".