سورية رقم لا يقبل القسمة
حين حاولت الحكومة الفرنسية الإبقاء على "دولة العلويين"، وإنشاء إمارة جبل الدروز، كان هناك من يؤيد هكذا كيانين، أما اليوم فلا أحد من الموالين، أو المعارضين، يؤيد ذلك.
يومها، بسهولة بالغة، استطاع محمد علي العابد، بتأييد من غالبية السوريين، ضم لواء اللاذقية وإمارة جبل الدروز إلى الجمهورية السورية. ويومها، اصطدمت المحاولات الفرنسية للبقاء على الكيانين بالحماس السوري العارم لدولة سورية واحدة. جميع محاولات تشجيع العلويين على الانفصال ذهبت أدراج الرياح، وظلت الدويلة المزعومة هيكلاً يقاد، شكلاً، من مجلس تمثيلي، وفعلاً من الحكومة الفرنسية.
كانت النزعة الانفصالية التي شجعها الفرنسيون قوية آنذاك، إذ كان في المجلس التمثيلي المزعوم اتجاهان: الأول طائفي، يريد تكريس الانفصال عن سورية، بدعوى الخوف والاختلاف (كان فيه ثمانية من الطائفة العلوية، وواحد من الطائفة الاسماعيلية، ومسيحي)، والثاني وحدوي، لا يقبل أن تكون اللاذقية إلا محافظة سورية (فيه رجل من الطائفة العلوية، هو جابر العباس، وثلاثة من السنة، واثنان من المسيحيين)، وقد تمكن هذا الاتجاه من تغيير اسم دولة العلويين إلى حكومة اللاذقية عام 1930.
رفضت الكتلة الوطنية، برئاسة هاشم الأتاسي، أي اتفاقية مع الفرنسيين الذين كانوا يراوغون (كما تفعل أميركا وحلفاؤها اليوم) على حساب الدولة الوطنية السورية، ولم تقبل بأي وضع خاص لأي كيان منفصل عن الجسم السوري. وعمت المظاهرات حلب وباقي المحافظات السورية، وتعاطف العالم العربي والعالمي مع مطالب الشعب السوري في الوحدة. رضخ الفرنسيون، في النهاية، إلى مطلبي الوحدة والاستقلال. وتقدم أبناء الطائفة العلوية نفسها الصفوف، يطالبون بالكيان الواحد، ويذكر السوريون حين قال نائب طرطوس، منير العباس، للفرنسيين، بصريح العبارة "إن مصلحة العلويين أن يكونوا جزءاً من سورية".
تكلل هذا النضال بتوقيع هاشم الأتاسي على معاهدة مع الفرنسيين عام 1936، تنص على: (1) محافظة اللاذقية وجبل الدروز جزء من الدولة السورية، و(2) أن تحظى هاتان المحافظتان على نظام إداري ومالي خاص، و(3) أن تخضعان لدستور الجمهورية السورية (والحقيقة أنه من الحكمة والمنطق أن تخضع كل المحافظات السورية لنظم إدارية ومالية خاصة، حتى يمكن تنمية جميع المحافظات بالتكامل مع بعضها).
تطالعنا الأخبار، اليوم، بهلوسات الانفصاليين وتجار الحروب وتمنياتهم، فالبغدادي يحلم بدولة مسخ في غرب العراق وشمال وشرق سورية، شرط أن تهيمن على بئرين من النفط، والنصرة وأمراء الحرب شمال حلب يهيئون أنفسهم لتقاسم السلطة مع داعش، ويحلم انفصاليون كثر بدولة في الجنوب وفي الساحل.
بالونات اختبار تطلقها مجموعات من المشعوذين والأكاديميين الغربيين، لجس نبض السوريين، في مقدمتهم، هذه الأيام، جوشوا لانديس، اليهودي الأميركي ورئيس قسم الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، حيث يشجع دعاة التقسيم بأطروحة، يدّعي أنها تستند إلى مقاربات تاريخية وإلى تغيرات حدثت في المنطقة في القرون الماضية، وأن الربيع العربي، هو في نهاية المطاف، تنظيم للخلافات بين الطوائف والأعراق والأديان، بعد فشل الدولة القومية. يتناسى لانديس تاريخاً طويلاً من الاندماج الذي عاشته هذه المنطقة بين الطوائف والأعراق والأديان، ويتناسى أن الانقسام لم يكن يوماً إلا من فعل الفرنسيين والإنجليز سابقاً، والأميركان اليوم. وحتى حين يدعم لانديس أطروحته، بدعوى فشل بناء دولة علمانية وطنية في العراق، فهو يتناسى دور أميركا في إقامة دولة محاصصات طائفية وعرقية، وحين يستشهد بدعوات المنظمات الطائفية الإرهابية، يتناسى سبب التفاف الناس حول هكذا دعوات.
لا أحد من السوريين يريد من لانديس، وأمثاله، أن يعلمهم كيف يتقاسمون أرضهم، وكيف ينشئون دولة في الشمال ودولة في الجنوب، لأنهم يعرفون كيف يحافظون على أرضهم موحدة لوطن يسوده العدل والمساواة.
وفي سياق التقسيم، تندرج دعوة دي ميستورا لإقامة مناطق حكم ذاتي مجمدة، وما يسميه تبادل لمناطق النفوذ. ولن تؤدي تلك الدعوة سوى إلى مناطق ذات هويات عرقية ومذهبية ودينية متباينة، ومناطق نزاع للمجموعات المتصارعة وأمراء الحرب، للقضاء على ما تبقى من سورية ونسيجها السوري التاريخي المتعدد، كما يشير اختيار ميستورا حلب إلى هدفه الذي ينسجم مع أفكار التقسيم المشؤومة.
لا يمكن أن تعيش سورية إلا دولة واحدة، لأنه كلما تدخل الاستعمار، أو تدخلت الحرب والمواقع الجغرافية، تعود من جديد موحدةً، فأهلها من دم واحد وعرق سوري واحد.