سورية اليوم بلدٌ تتنازعه خساسة حكّامٍ بعضهم أراد التأبّد في حكمه، وبعضهم يحلم بالانطلاق منه نحو إمبراطورية دموية متزمّتة تغمر العالم برؤاها العظامية المهلوسة. بلدٌ تتناهشه وحشية محاربين درّبتهم إرادات فاشية إقصائية، مقابل آخرين نبعوا خلسةً من أرضه أو أتوه من كلّ فجٍ عميقٍ، لتحقيق كوابيس خلاصيةٍ مريضةٍ أو تصفية حسابات ثأرية، بعضها يعود لأكثر من ألف عام. لم يبقَ فيه موقع إلا وأصابه دمار حرب تخريبية عبثية مستمرّة منذ سنوات، من دون أي ضوء في نهاية النفق.
في هذه الأجواء الكارثية والمحبطة والمؤلمة، ربّما كان الحديث عن تاريخ سورية ترفاً لا مكان له. بل وربّما كان تاريخ سورية نفسه برمّته سراباً عندما نراه من خلال عدسات هذا الحاضر المكسورة أو المهزوزة والمغطاة بالرماد والدموع والدم. لكن ربّما كان التفكّر ببعض مناحي هذا التاريخ، مدخلاً ليقظة مأمولة بغدٍ أفضل، ومفتاحاً لتصحيح مفاهيم مغلوطة ومسيّسة تراكمت على مرّ السنين مما نرى آثاره في صراعات اليوم الألفية.
ظهر اسم سورية في اللغة الإغريقية أولاً حوالى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، كتخفيف لاسم آشور، الدولة القويّة التي حكمت شمال بلاد الرافدين وسورية الحالية عدّة قرون. تغيّرت دلالة الاسم الجغرافية عندما أسّس الجنرال سلوقس، واحد من أهم القادة لدى الإسكندر المقدوني، مملكته على جزءٍ من شمال العراق وجنوب تركيا وسورية حتّى حمص، ثم توسّع خلفاؤه على حساب أراضي البطالمة في جنوب سورية وفلسطين، لكي يطلق على كامل ما عرفه العرب لاحقاً ببلاد الشام اسم سورية.
استمرّت سورية هذه لمدة ألف عام (033 ق.م - 046 ب. م) كجزء من عالم متوسطي هيلينستي سلوقي بدءاً، وروماني لاحقاً، ومسيحي بيزنطي في النهاية. تعرّضت خلال هذه الفترة لنكبات هائلة دمّرت العديد من مدنها. وترافق غضب الطبيعة أحياناً مع الصراع الروماني - الفارسي الذي كانت سورية مسرحاً لجولاته المدمّرة، كما حصل بين 540 و 542 عندما احتلّ خسرو الأوّل الساساني معظم مدن سورية، وهدمها قبل أن يعيد جوستينيان بناءها، أو في الحرب الطاحنة في بدايات القرن السابع التي احتل خلالها خسرو الثاني سورية وأخذ من القدس الصليب الذي استعاده هرقل البيزنطي عام 620.
مع أن سورية كانت منهكة بعد الحروب البيرنطية - الفارسية، إلا أنها بدت لفاتحيها العرب المسلمين فاتنةً بمدنها وكنائسها وأديرتها الغنية، وتجارتها المنتعشة، وسكّانها متعددي الثقافات واللغات. لم تكن مصادفةً أن الأمويين اختاروها مركزًا لخلافتهم بدلاً من الحجاز. ولا أظن السبب هو الصراع الديني، بل هي الثقافة والثراء والرخاء التي جذبتهم. أعطى الأمويون سورية بقدر ما أعطتهم. جعلوها مركز الدنيا، كما غنّت فيروز، وبنوا في أرجائها جوامع وقصورًا وخانات وقلاعاً، وزخرفوا كلّ ذلك بلغة فنية كلاسيكية مطعّمة ببعض التأثيرات الشرقية والأذواق العربية. ما زالت هذه الأوابد شواهد على عظمة عمرانهم، رغم التدمير التي لحق ببعضها، عندما ثار العبّاسيون عليهم وجهدوا لمحو آثارهم، بل وإزالة ذكرهم من التاريخ، بتمويل كتب أخبار تغضّ من شأنهم، ومحو كتاباتهم من مبانيهم، كما فعل المأمون عندما نزّل اسمه مكان اسم عبد الملك في فسيفساء قبة الصخرة في القدس، لكنه نسي تغيير التاريخ 72 للهجرة، أو 98 سنة قبل ولادة المأمون نفسه!
لم تكن القرون بين الثامن والحادي عشر الميلادية كريمةً مع سورية التي عانت من عنت العباسيين والفاطميين بعدهم، وغزوات البدو لمدنها، ثمّ مجيء الأتراك المغامرين الذين استحوذوا على مدنها وتقاتلوا فيما بينهم قبل أن يأتي الصليبيون ويحتلوا سواحلها. عانى العمران كثيراً خلال تلك الفترة، بحيث إننا لا نجد اليوم أي مبنى مهمّ يؤرخها. لم تنهض سورية إلا مع نور الدين محمود ابن زنكي، الأمير المجاهد والعادل والمعروف بالشهيد، الذي وحّد البلاد في مواجهة الغزو الصليبي وأعاد لها ألقها بما بناه فيها من قلاع ومساجد ومدارس ومشاهد وأوّل دار للعدل في التاريخ. وقد تبعه الأيوبيون، بحيث إن دمشق وحلب اليوم، ما زالتا زاخرتين بآثارهم، رغم تدمير الكثير منها خلال غزوة هولاكو المغولية التي عاثت في سورية فساداً قبل أن يوقف المماليك زحفه في معركة عين جالوت في فلسطين.
اتّبع المماليك سياسة عمرانية مشابهة للأيوبيين، بل إن أمراءهم تنافسوا في ما بينهم لعمارة المدن السورية. لكن غزوة تيمورلنك في نهاية القرن الرابع عشر، كانت قاصمةً للبلاد والعباد، إذ إضافة لتدميره حلب وحماة وحمص ودمشق واستباحته لها، فرض ضرائب باهظة، وأجبر العديد من حرفييها وعلمائها على الهجرة إلى سمرقند. لم تستعد البلاد بعضاً من صحتها إلا مع نهايات الحكم المملوكي، خاصّة مع السلطان قايتباي المحبّ للعمران. لكن الفتح العثماني في بداية القرن السادس عشر، قَلَب المعادلة ثانية، عندما أصبحت سورية جزءاً من إمبراطورية مترامية الأطراف، تُحكم من بعيد وتُرك عمرانها لحكّام ولاياتها الذين تراوحوا بين مهمل ونشيط؛ آل العظم في القرن الثامن عشر، والمصلحين في فترة التنظيمات؛ مدحت باشا وناظم باشا.
قضى الاستعمار على التجربة الوطنية الجنينية لمملكة سورية عام 1920، قبل أن تتاح لها الفرصة لتنظيم البلاد. احتل الإنجليز فلسطين وشرق الأردن، على حين استقطع الفرنسيون دولة لبنان الكبير، وقضوا على الثورة التي واجهتهم، أحياناً بوحشية، كما حصل عندما أحرقوا محلة "سيدي عامود"، التي أصبحت "الحريقة" في دمشق القديمة. لكنهم أسّسوا نظماً أوروبية جديدة، وإدارة وعمران جديدين، أدخلت سورية في عالم الحداثة بحلوه ومرّه. تابع الحكم الوطني بعد الاستقلال، تجربة الحداثة وإن طعّمها بنفسٍ عروبي. لكن نكبة فلسطين عجّلت من استفحال الصراع الطبقي والمناطقي، وأدّت إلى اغتصاب العسكر للحكم في البلاد. جاء برجوازيو العسكر أولاً، ثم تجربة الوحدة مع عبد الناصر، ثمّ حكم البعث الذي قضى على آخر ملامح المدنية الموروثة من انصهار تجارب تاريخية ممتدّة لقرون، وأحلّ محلها نظاماً استبدادياً مخاتلاً.
اليوم يتنافس النظام الأسدي ومعارضوه من جماعات الإسلاميين بوحشية قلّ نظيرها، على تدمير سورية وقتل شعبها والقضاء على لحمتها الوطنية. متجاوزين بذلك همجية القرون الوسطى، وإن استخدموا أسلحة الموت الحديثة. لكن سورية الأرض والناس والفكرة والتاريخ، باقية رغماً عن الطرفين جميعاً، وستعود من رمادها وبجهود المخلصين من أبنائها وبناتها كما تعود العنقاء أو الفينيق وطناً واحداً متألّقاً.
في هذه الأجواء الكارثية والمحبطة والمؤلمة، ربّما كان الحديث عن تاريخ سورية ترفاً لا مكان له. بل وربّما كان تاريخ سورية نفسه برمّته سراباً عندما نراه من خلال عدسات هذا الحاضر المكسورة أو المهزوزة والمغطاة بالرماد والدموع والدم. لكن ربّما كان التفكّر ببعض مناحي هذا التاريخ، مدخلاً ليقظة مأمولة بغدٍ أفضل، ومفتاحاً لتصحيح مفاهيم مغلوطة ومسيّسة تراكمت على مرّ السنين مما نرى آثاره في صراعات اليوم الألفية.
ظهر اسم سورية في اللغة الإغريقية أولاً حوالى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، كتخفيف لاسم آشور، الدولة القويّة التي حكمت شمال بلاد الرافدين وسورية الحالية عدّة قرون. تغيّرت دلالة الاسم الجغرافية عندما أسّس الجنرال سلوقس، واحد من أهم القادة لدى الإسكندر المقدوني، مملكته على جزءٍ من شمال العراق وجنوب تركيا وسورية حتّى حمص، ثم توسّع خلفاؤه على حساب أراضي البطالمة في جنوب سورية وفلسطين، لكي يطلق على كامل ما عرفه العرب لاحقاً ببلاد الشام اسم سورية.
استمرّت سورية هذه لمدة ألف عام (033 ق.م - 046 ب. م) كجزء من عالم متوسطي هيلينستي سلوقي بدءاً، وروماني لاحقاً، ومسيحي بيزنطي في النهاية. تعرّضت خلال هذه الفترة لنكبات هائلة دمّرت العديد من مدنها. وترافق غضب الطبيعة أحياناً مع الصراع الروماني - الفارسي الذي كانت سورية مسرحاً لجولاته المدمّرة، كما حصل بين 540 و 542 عندما احتلّ خسرو الأوّل الساساني معظم مدن سورية، وهدمها قبل أن يعيد جوستينيان بناءها، أو في الحرب الطاحنة في بدايات القرن السابع التي احتل خلالها خسرو الثاني سورية وأخذ من القدس الصليب الذي استعاده هرقل البيزنطي عام 620.
مع أن سورية كانت منهكة بعد الحروب البيرنطية - الفارسية، إلا أنها بدت لفاتحيها العرب المسلمين فاتنةً بمدنها وكنائسها وأديرتها الغنية، وتجارتها المنتعشة، وسكّانها متعددي الثقافات واللغات. لم تكن مصادفةً أن الأمويين اختاروها مركزًا لخلافتهم بدلاً من الحجاز. ولا أظن السبب هو الصراع الديني، بل هي الثقافة والثراء والرخاء التي جذبتهم. أعطى الأمويون سورية بقدر ما أعطتهم. جعلوها مركز الدنيا، كما غنّت فيروز، وبنوا في أرجائها جوامع وقصورًا وخانات وقلاعاً، وزخرفوا كلّ ذلك بلغة فنية كلاسيكية مطعّمة ببعض التأثيرات الشرقية والأذواق العربية. ما زالت هذه الأوابد شواهد على عظمة عمرانهم، رغم التدمير التي لحق ببعضها، عندما ثار العبّاسيون عليهم وجهدوا لمحو آثارهم، بل وإزالة ذكرهم من التاريخ، بتمويل كتب أخبار تغضّ من شأنهم، ومحو كتاباتهم من مبانيهم، كما فعل المأمون عندما نزّل اسمه مكان اسم عبد الملك في فسيفساء قبة الصخرة في القدس، لكنه نسي تغيير التاريخ 72 للهجرة، أو 98 سنة قبل ولادة المأمون نفسه!
لم تكن القرون بين الثامن والحادي عشر الميلادية كريمةً مع سورية التي عانت من عنت العباسيين والفاطميين بعدهم، وغزوات البدو لمدنها، ثمّ مجيء الأتراك المغامرين الذين استحوذوا على مدنها وتقاتلوا فيما بينهم قبل أن يأتي الصليبيون ويحتلوا سواحلها. عانى العمران كثيراً خلال تلك الفترة، بحيث إننا لا نجد اليوم أي مبنى مهمّ يؤرخها. لم تنهض سورية إلا مع نور الدين محمود ابن زنكي، الأمير المجاهد والعادل والمعروف بالشهيد، الذي وحّد البلاد في مواجهة الغزو الصليبي وأعاد لها ألقها بما بناه فيها من قلاع ومساجد ومدارس ومشاهد وأوّل دار للعدل في التاريخ. وقد تبعه الأيوبيون، بحيث إن دمشق وحلب اليوم، ما زالتا زاخرتين بآثارهم، رغم تدمير الكثير منها خلال غزوة هولاكو المغولية التي عاثت في سورية فساداً قبل أن يوقف المماليك زحفه في معركة عين جالوت في فلسطين.
اتّبع المماليك سياسة عمرانية مشابهة للأيوبيين، بل إن أمراءهم تنافسوا في ما بينهم لعمارة المدن السورية. لكن غزوة تيمورلنك في نهاية القرن الرابع عشر، كانت قاصمةً للبلاد والعباد، إذ إضافة لتدميره حلب وحماة وحمص ودمشق واستباحته لها، فرض ضرائب باهظة، وأجبر العديد من حرفييها وعلمائها على الهجرة إلى سمرقند. لم تستعد البلاد بعضاً من صحتها إلا مع نهايات الحكم المملوكي، خاصّة مع السلطان قايتباي المحبّ للعمران. لكن الفتح العثماني في بداية القرن السادس عشر، قَلَب المعادلة ثانية، عندما أصبحت سورية جزءاً من إمبراطورية مترامية الأطراف، تُحكم من بعيد وتُرك عمرانها لحكّام ولاياتها الذين تراوحوا بين مهمل ونشيط؛ آل العظم في القرن الثامن عشر، والمصلحين في فترة التنظيمات؛ مدحت باشا وناظم باشا.
قضى الاستعمار على التجربة الوطنية الجنينية لمملكة سورية عام 1920، قبل أن تتاح لها الفرصة لتنظيم البلاد. احتل الإنجليز فلسطين وشرق الأردن، على حين استقطع الفرنسيون دولة لبنان الكبير، وقضوا على الثورة التي واجهتهم، أحياناً بوحشية، كما حصل عندما أحرقوا محلة "سيدي عامود"، التي أصبحت "الحريقة" في دمشق القديمة. لكنهم أسّسوا نظماً أوروبية جديدة، وإدارة وعمران جديدين، أدخلت سورية في عالم الحداثة بحلوه ومرّه. تابع الحكم الوطني بعد الاستقلال، تجربة الحداثة وإن طعّمها بنفسٍ عروبي. لكن نكبة فلسطين عجّلت من استفحال الصراع الطبقي والمناطقي، وأدّت إلى اغتصاب العسكر للحكم في البلاد. جاء برجوازيو العسكر أولاً، ثم تجربة الوحدة مع عبد الناصر، ثمّ حكم البعث الذي قضى على آخر ملامح المدنية الموروثة من انصهار تجارب تاريخية ممتدّة لقرون، وأحلّ محلها نظاماً استبدادياً مخاتلاً.
اليوم يتنافس النظام الأسدي ومعارضوه من جماعات الإسلاميين بوحشية قلّ نظيرها، على تدمير سورية وقتل شعبها والقضاء على لحمتها الوطنية. متجاوزين بذلك همجية القرون الوسطى، وإن استخدموا أسلحة الموت الحديثة. لكن سورية الأرض والناس والفكرة والتاريخ، باقية رغماً عن الطرفين جميعاً، وستعود من رمادها وبجهود المخلصين من أبنائها وبناتها كما تعود العنقاء أو الفينيق وطناً واحداً متألّقاً.