04 نوفمبر 2024
سياسة عُمان بين الاستمرارية والتغير
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
يطرح رحيل السلطان قابوس بن سعيد أسئلةً مهمّة عن مستقبل السياسة الخارجية العُمانية، ومدى إمكانية استمرارها أو حدوث تغيرات فيها، إضافةً إلى ضرورة استشراف مآلات أدوارها في عدة ملفات عربية وإقليمية، في ظل "ندرة" الدراسات/ الأبحاث العربية عن سياسات عُمان، الداخلية والخارجية. وثمّة حاجة علمية عربية، وأدوار لمراكز الأبحاث والجامعات، لفهم السياسات العُمانية وأسسها ومعاييرها أولاً، قبل إطلاق أحكامٍ متسرّعة عليها.
لقد اختار والد السلطان قابوس، السلطان تيمور بن سعيد، إبّان فترة حكمه (1932 - 1970) سياسة "العزلة" لأسبابٍ تتعلق بالوضع الجيوبولتيكي للبلاد، ذات السواحل البحرية الطويلة، ما جعل أمنها وتجارتها يرتبطان تاريخياً بالصراعات البحرية (في بحر العرب، وشرق أفريقيا، وغرب المحيط الهندي)، أكثر من ارتباطها بصراعات شبه الجزيرة العربية. كما حكمت وعورة جغرافية البلاد بوجود سهولٍ صحراوية أو سلاسل جبلية، بحيث أدّت إلى فصل الساحل عن الداخل، والشمال عن الجنوب. وليس بلا معنى أن إقليم ظفار الجنوبي قد شهد، بين عامي 1963 و1975، واحداً من أبرز النزاعات المسلحة في حقبة الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والأميركي، إذ انخرطت "جبهة تحرير ظفار" في صراعٍ مسلح مع السلطان تيمور، الذي كان معارضاً للإصلاح.
كما تعزّزت "عزلة" السلطنة في ذلك العهد، بسبب عنصريين إضافيين؛ يتعلّق أحدهما بطبيعة المذهب الإباضي الذي يعتنقه أكثر من 60 % من السكان، والذي يختلف عن المذهبين السائدين في الجارتين الكبريين لعُمان، السعودية وإيران. والآخر فقدان السلطنة مصدر قوتها
الرئيس، وهو أملاكها الخارجية في شرق أفريقيا (زنجبار) والساحل الغربي للهند، فضلاً عن تأخّر اكتشاف النفط في عُمان مقارنةً بالدول الخليجية الأخرى التي استطاعت تكوين ثرواتٍ كبيرة من عائدات النفط.
وبهذا المعنى، مثّل وصول السلطان قابوس بن تيمور بن سعيد إلى السلطة، في 23 يوليو/ تموز 1970، نقلةً مهمّة على صعيد حل المشكلات الداخلية، عبر التنمية والتطوير والمصالحة مع الذات، وتجاوز سياسات "العزلة" على الصعيد الخارجي، واختيار سياسة التفاعل والانفتاح على العالم العربي والعالم عموماً، إذ انضمت السلطنة إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في 1971. وقد فضّلت عُمان في عهد قابوس (1970 - 2020) سياسة "الحياد الإيجابي"، واتسمت دبلوماسيتها بالواقعية والتوازن في دوائر حركتها الخارجية، على الصعد الخليجية والعربية والإقليمية والعالمية. كما رفضت سياسة الأحلاف والمحاور الإقليمية وعسكرة الصراعات الدولية، وأكّدت دائماً على حل الصراعات السياسية بشكل سلمي، عبر الوساطات والمفاوضات.
وقد انعكس إدراك السلطان قابوس خصوصية موقع بلاده الجغرافي وإرثها التاريخي على فهمه أهمية بذل جهود الوساطة، وتوفير منصات الحوار من أجل حل الصراعات الخليجية والعربية
والإقليمية؛ إذ استوعب أهمية عدم زرع الكراهية بين الشعوب. وما دامت الشعوب باقية، فلماذا يتم إحداث العداوات وعقد "الكراهية" في المنطقة، كما أشار في حديث صحافي له في 11/1/1986.
ولئن كانت مقاربات عُمان في عهد قابوس قد اتسمت بالتوازن إجمالاً، فإنه يمكن توجيه انتقادات لبعض مسارات سياستها الخارجية، خصوصاً مسألة التقارب مع إسرائيل، سيما أن السلطان استقبل في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، والذي قدّم، عبر صفحته على "تويتر"، التعزية بوفاة السلطان قابوس، ورحّب بتصريحات السلطان الجديد، هيثم بن طارق، عن استمرار السياسة الخارجية العُمانية على النهج نفسه. كما أن رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية، زار السلطنة لتقديم التعازي أيضاً، وهي خطوةٌ جيدة لفتح باب علاقة مع مسقط، في ظل عزلة "حماس" العربية والدولية المتفاقمة، بكل ما تحمله من تداعياتٍ خطيرةٍ على قطاع غزة.
ومثلما هو حال دبلوماسية الكويت وقطر، قد يكون نهج الدبلوماسية العُمانية أقرب إلى التوازن واختيار "الطريق الثالث" بين واشنطن وطهران، الذي ربما يحقق المصالح الخليجية والعربية أكثر من الانحياز لإحداهما على حساب الأخرى، مع تجنّب افتعال حروب كلامية/ إعلامية أو صدامات/ صراعات عبثية، مع القوتين الإقليميتين المؤثرتين، تركيا وإيران.
وربما يمكن النظر إلى موضوع حصار قطر منذ 5 يونيو/ حزيران 2017، بوصفه بدايةَ توسيع آفاق دبلوماسيات عُمان والكويت وقطر، خصوصاً في تصميم مقاربةٍ متوازنةٍ تتحفّظ على سياسات الرياض في عهد الأمير محمد بن سلمان، لكن من دون قطيعة؛ أي عبر الاحتفاظ بمسارات الحوار والتواصل وحضور اجتماعات مجلس التعاون الخليجي، بما يتيح للسعودية، إن أرادت، فرصة التراجع عن هذه السياسات "قصيرة النظر"، قبل أن تتحوّل إلى توجهاتٍ
دائمة من "الاستعلاء" على دول الجوار الخليجي واليمن، والتي ستبقى أهم دوائر حركة السياسة الخارجية السعودية، بغض النظر عن مشكلات ولي العهد السعودي وسياساته التصعيدية التي يقف خلفها طاقمٌ من مستشاريه ذوي الخبرة المحدودة/ المتواضعة، في إدارة العلاقات السعودية مع الأطراف الخليجية والعربية والإقليمية والدولية التي تنتقل من أزمةٍ إلى أخرى أكبر منها، من دون أفق لحلها. ويمكن لمميزات السياسات الخارجية لعُمان والكويت وقطر أن تتضح أكثر، إذا قورنت بسياسات الثلاثي السعودي الإماراتي المصري، القائمة على تأزيم المنطقة العربية من أقصاها إلى أدناها، بدايةً من الخليج، مروراً باليمن، وليس انتهاءً بسورية وليبيا والسودان وقطاع غزة .
وإذا كانت الكويت قد تصدّت للوساطة في أزمة حصار قطر منذ اندلاعها، فإن عُمان ربما تكون الأقدر على لعب دور الوساطة لفرملة حرب ثنائي الرياض أبوظبي على اليمن، والتي تبدو بلا أفق ولا أهداف سياسية لها، فضلاً عن أن تحكمها "رؤية استراتيجية"، اللهم إلا إذا كان قتل المدنيين اليمنيين وتجويعهم وتفكيك البلاد يمكن أن يُعد إنجازاً سياسياً في نظر بعضهم.
ولعل احتمال دخول النظام الدولي في طور "انتقالي"، قبل استقراره على نمط قطبي ثلاثي (أميركا الصين روسيا)، قد يزيد من مساحة حركة السياسة العُمانية، ويفعّل جهودها في الوساطات واستضافة المباحثات والحوارات، سيما في الملفات التي تلعب فيها طهران دوراً أساسياً أو تكون طرفاً فيها (مثل اليمن، وموضوع إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، بعد اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني). وفي كل الأحوال، ينبغي تشجيع أدوار الوساطة العربية لحل الصراعات، بدل ترك هذه المساحة لأطرافٍ إقليمية أو دولية، تحمل أجنداتٍ ومشروعاتٍ، قد لا تتوافق مع مصالح الشعوب العربية بالضرورة.
باختصار، قد تؤدي وفاة السلطان قابوس إلى تغيير طفيفٍ جداً، في أسلوب السياسة العُمانية، مع ترجيح استمرار أغلب خطوطها العريضة، كما أشار إلى ذلك السلطان هيثم بن طارق في خطاب تنصيبه.
كما تعزّزت "عزلة" السلطنة في ذلك العهد، بسبب عنصريين إضافيين؛ يتعلّق أحدهما بطبيعة المذهب الإباضي الذي يعتنقه أكثر من 60 % من السكان، والذي يختلف عن المذهبين السائدين في الجارتين الكبريين لعُمان، السعودية وإيران. والآخر فقدان السلطنة مصدر قوتها
وبهذا المعنى، مثّل وصول السلطان قابوس بن تيمور بن سعيد إلى السلطة، في 23 يوليو/ تموز 1970، نقلةً مهمّة على صعيد حل المشكلات الداخلية، عبر التنمية والتطوير والمصالحة مع الذات، وتجاوز سياسات "العزلة" على الصعيد الخارجي، واختيار سياسة التفاعل والانفتاح على العالم العربي والعالم عموماً، إذ انضمت السلطنة إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في 1971. وقد فضّلت عُمان في عهد قابوس (1970 - 2020) سياسة "الحياد الإيجابي"، واتسمت دبلوماسيتها بالواقعية والتوازن في دوائر حركتها الخارجية، على الصعد الخليجية والعربية والإقليمية والعالمية. كما رفضت سياسة الأحلاف والمحاور الإقليمية وعسكرة الصراعات الدولية، وأكّدت دائماً على حل الصراعات السياسية بشكل سلمي، عبر الوساطات والمفاوضات.
وقد انعكس إدراك السلطان قابوس خصوصية موقع بلاده الجغرافي وإرثها التاريخي على فهمه أهمية بذل جهود الوساطة، وتوفير منصات الحوار من أجل حل الصراعات الخليجية والعربية
ولئن كانت مقاربات عُمان في عهد قابوس قد اتسمت بالتوازن إجمالاً، فإنه يمكن توجيه انتقادات لبعض مسارات سياستها الخارجية، خصوصاً مسألة التقارب مع إسرائيل، سيما أن السلطان استقبل في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، والذي قدّم، عبر صفحته على "تويتر"، التعزية بوفاة السلطان قابوس، ورحّب بتصريحات السلطان الجديد، هيثم بن طارق، عن استمرار السياسة الخارجية العُمانية على النهج نفسه. كما أن رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية، زار السلطنة لتقديم التعازي أيضاً، وهي خطوةٌ جيدة لفتح باب علاقة مع مسقط، في ظل عزلة "حماس" العربية والدولية المتفاقمة، بكل ما تحمله من تداعياتٍ خطيرةٍ على قطاع غزة.
ومثلما هو حال دبلوماسية الكويت وقطر، قد يكون نهج الدبلوماسية العُمانية أقرب إلى التوازن واختيار "الطريق الثالث" بين واشنطن وطهران، الذي ربما يحقق المصالح الخليجية والعربية أكثر من الانحياز لإحداهما على حساب الأخرى، مع تجنّب افتعال حروب كلامية/ إعلامية أو صدامات/ صراعات عبثية، مع القوتين الإقليميتين المؤثرتين، تركيا وإيران.
وربما يمكن النظر إلى موضوع حصار قطر منذ 5 يونيو/ حزيران 2017، بوصفه بدايةَ توسيع آفاق دبلوماسيات عُمان والكويت وقطر، خصوصاً في تصميم مقاربةٍ متوازنةٍ تتحفّظ على سياسات الرياض في عهد الأمير محمد بن سلمان، لكن من دون قطيعة؛ أي عبر الاحتفاظ بمسارات الحوار والتواصل وحضور اجتماعات مجلس التعاون الخليجي، بما يتيح للسعودية، إن أرادت، فرصة التراجع عن هذه السياسات "قصيرة النظر"، قبل أن تتحوّل إلى توجهاتٍ
وإذا كانت الكويت قد تصدّت للوساطة في أزمة حصار قطر منذ اندلاعها، فإن عُمان ربما تكون الأقدر على لعب دور الوساطة لفرملة حرب ثنائي الرياض أبوظبي على اليمن، والتي تبدو بلا أفق ولا أهداف سياسية لها، فضلاً عن أن تحكمها "رؤية استراتيجية"، اللهم إلا إذا كان قتل المدنيين اليمنيين وتجويعهم وتفكيك البلاد يمكن أن يُعد إنجازاً سياسياً في نظر بعضهم.
ولعل احتمال دخول النظام الدولي في طور "انتقالي"، قبل استقراره على نمط قطبي ثلاثي (أميركا الصين روسيا)، قد يزيد من مساحة حركة السياسة العُمانية، ويفعّل جهودها في الوساطات واستضافة المباحثات والحوارات، سيما في الملفات التي تلعب فيها طهران دوراً أساسياً أو تكون طرفاً فيها (مثل اليمن، وموضوع إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، بعد اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني). وفي كل الأحوال، ينبغي تشجيع أدوار الوساطة العربية لحل الصراعات، بدل ترك هذه المساحة لأطرافٍ إقليمية أو دولية، تحمل أجنداتٍ ومشروعاتٍ، قد لا تتوافق مع مصالح الشعوب العربية بالضرورة.
باختصار، قد تؤدي وفاة السلطان قابوس إلى تغيير طفيفٍ جداً، في أسلوب السياسة العُمانية، مع ترجيح استمرار أغلب خطوطها العريضة، كما أشار إلى ذلك السلطان هيثم بن طارق في خطاب تنصيبه.
دلالات
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
أمجد أحمد جبريل
مقالات أخرى
31 أكتوبر 2024
29 سبتمبر 2024
13 سبتمبر 2024