تحدّيات الوساطة القطرية عشيّة الانتخابات الأميركية
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
على الرغم من استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، عاماً ونيف، وتوظيف حكومة نتنياهو الدعم الأميركي، العسكري والمالي والسياسي، في إطالة أمد الحرب وتوسيعها، فقد سجّلت الوساطة القطرية استمراراً لافتاً، على نحو كشف التزام الدوحة تجاه قضية فلسطين، ومحاولاتها تطوير "مقاربة مناسبة"، للتعامل مع تداعيات/ تعقيدات هذه الحرب الكارثية، التي عكست أزمةَ السياسات العربية والإقليمية والدولية، في ظل المرحلة الانتقالية التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، سيما مع إحجام روسيا والصين عن اتخاذ خطوات أبعد من المستويين، الخطابي والاقتصادي، والذهاب نحو طرح بدائل/ سياسات فعلية لتحدّي الهيمنة الأميركية على إقليم الشرق الأوسط إجمالاً، على نحو ما تفعل موسكو وبكين، في مناطق نفوذهما وجوارهما المباشر.
وفي سياق تحليل إنجازات الوساطة القطرية في حرب غزّة (2023 - 2024) وتحدّياتها، وفهم انعكاسات البيئة الدولية والإقليمية والعربية على هذه الوساطة، خصوصاً تأثير الانتخابات الأميركية (5/11/2024)، ثمة أربع ملاحظات: أولاها، إنجازات الوساطة القطرية، في ثلاث مناسبات على الأقل: نجاح الاتصالات القطرية في إقناع حركة حماس بإطلاق سراح الرهينتين الأميركيتين، جوديث وناتالي رعنان، لدواعٍ إنسانية، كما جاء في بيان المتحدّث باسم كتائب عز الدين القسام أبو عبيدة (20/10/2023). نجاح الدوحة بالتعاون مع القاهرة وواشنطن في إبرام "الهدنة الإنسانية" (24-30/11/2023)، بين قوات الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية؛ إذ جرى تبادل 240 أسيراً فلسطينياً في مقابل 109 محتجزين إسرائيليين، فضلاً عن زيادة الشحنات الإغاثية لأهالي قطاع غزّة. وإعلان الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري (16/1/2024)، نجاح الوساطة القطرية الفرنسية، في التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس، لإدخال أدوية وشحنة مساعدات إنسانية إلى المدنيين في قطاع غزّة، مقابل إيصال الأدوية التي يحتاج إليها المحتجزون الإسرائيليون في القطاع.
نتيجة الانتخابات الأميركية ستشكّل عاملاً جوهرياً في حسم اتجاه الشرق الأوسط، إما نحو مرحلة من التسويات والتهدئة، أو الانزلاق أكثر نحو توسّع الصراعات
وعلى الرغم من انتهاج حكومة نتنياهو سياسات الابتزاز، وتكثيف مناورات عرقلة التفاوض، وتكرار محاولات تشويه دور الوسيطين القطري والمصري، استمرّت الوساطة القطرية في محاولاتها إيجاد حلول لمواجهة التعقيدات/ العقبات الهائلة، التي أوجدتها المقاربة الأميركية الإسرائيلية لحرب الإبادة على غزّة، على نحوٍ أدّى في المحصلة، إلى إطالة الحرب، وأضعف إمكانية تحقيق "اختراقات" في جهود وقفها (أو حتى مجرّد تأمين استمرار تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة)؛ إذ آذنت (أي المقاربة) ببداية مرحلة من "الاستعصاء التفاوضي الممتد"، وتكريس مرحلة جديدة من السياسات الإسرائيلية في تكثيف ارتكاب المجازر بحق المدنيين (مثل اغتيال أكثر من 110 فلسطينيين كانوا ينتظرون المساعدات في منطقة دوار النابلسي "مجزرة الطحين" (29/2/2024)، وكذا "عملية مخيّم النصيرات" (8/6/2024) التي قتل فيها 274 فلسطينيّاً لتحرير أربعة أسرى إسرائيليين.. وغيرهما).
وإضافةً إلى عرقلة الوساطة القطرية، اتسمت هذه المرحلة بنشاط دبلوماسي أميركي لمنع مجلس الأمن من التعامل مع حرب غزّة خارج إطار ما تريده واشنطن؛ إذ امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2728 (25/3/2024) بشأن وقف إطلاق النار الفوري في غزّة خلال شهر رمضان. كما مرّرت واشنطن القرار رقم 2735 في مجلس الأمن (10/6/2024)، الذي يستكمل إعلان الرئيس بايدن (31/5/2024) عن وقف نهائي للحرب عبر ثلاث مراحل، وذلك للتغطية على جرائم إسرائيل، ومنحها "وقتاً أطول" لتحقيق أهداف الحرب.
تتعلق الملاحظة الثانية بمركزية تأثير العامل الأميركي في مسارات حرب غزّة (بدايةً واستمراراً وتهدئة وانتهاءً)، إذ اتخذت واشنطن الحربَ نقطةَ انطلاقٍ لإعادة تشكيل إقليم الشرق الأوسط، عبر تحجيم حركة حماس (وكلّ قوى المقاومة الأخرى، في فلسطين وخارجها، وصولاً إلى تحجيم/ ضبط المشروع الإيراني الإقليمي)، ناهيك عن تأثير واشنطن الأهم، أي إصرارها على التحكّم في مساحة حراك كلّ القوى العربية والإقليمية، وإفشال محاولاتها المتكرّرة لوقف الحرب، سيما عبر مجلس الأمن، كما سلف القول.
والمؤكد أن إحجام القوى الدولية الأخرى، خصوصا روسيا والصين، عن تحدّي الهيمنة الأميركية على مسار حرب غزّة، وشؤون إقليم الشرق الأوسط إجمالا، قد أسهم بفاعلية في تقليص مساحات الدبلوماسية والوساطة والحلول السلمية، وأدّى، في المحصلة التراكمية، إلى إجهاض مساعي الفاعلين الإقليميين والدوليين في البحث عن "استراتيجية خروج" (Exit Strategy) من هذه الحرب الأميركية بأدوات إسرائيلية، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفقاً لمصالح واشنطن وحساباتها.
واستطراداً، لعبت الدبلوماسية الأميركية دوراً محورياً في الضغط على الوساطتين، القطرية والمصرية، وكذا في استبعاد أي دور وساطة لتركيا في هذا الصدد، على الرغم من مناورات واشنطن الدبلوماسية، وخطابها المعلن بشأن أربعة موضوعات متعلّقة بالوساطات في حرب غزّة: أولاً، الإفراج عن الرهائن؛ إذ بقي منهم أربعة أميركيين في قبضة حركة حماس، ولم تلجأ واشنطن لإبرام صفقة أحادية مع الحركة بشأنهم، بذريعة عدم امتلاكها الثمن الذي تطلبه "حماس" من تحرير أسرى فلسطينيين، وقد بدا لافتاً امتناع إدارة بايدن عن تقديم أية تطمينات لـ"حماس"، في مقابل تكثيف الضغوط عليها دائما، (سياسة العصا الغليظة بدون جزرة)، وتحميلها أكثر من مرة مسؤولية تعطيل المفاوضات وإفشال صفقة تبادل الأسرى. ثانياً، زعم واشنطن السعي إلى "تخفيف" كارثية الوضع الإنساني في قطاع غزّة، لكنها لم تعمل على كسر الحصار بالكامل، ولا فرض احترام القانون الدولي الإنساني على إسرائيل في ما يخص استهداف المدنيين والمستشفيات و"المناطق الآمنة"، ناهيك عن إحجام واشنطن عن الضغط على إسرائيل، لكي تسمح بتدفق المساعدات، ولو في حدّها الأدنى. ثالثاً، ادّعاء واشنطن العمل على منع توسّع الصراع خارج فلسطين، خصوصاً مع إيران، على الرغم من الفشل الأميركي الواضح في منع حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن والفصائل المسلحة العراقية من مساندة جبهة غزّة. رابعاً، تصميم واشنطن "عملية تفاوضية" خاوية من المضمون، بالتوازي مع إشاعة خطاب من "التفاؤل" بقرب وقف حرب غزّة، والسماح بتمرير بعض القرارات في مجلس الأمن، وانتهاء بممارسة "دبلوماسية استهلاك الوقت" في جولات وزير الخارجية الأميركي بلينكن على دول المنطقة، التي استهدفت بالأساس التغطية على جرائم إسرائيل ومحاولة الحصول بدبلوماسية "الحد الأقصى من الضغوط" على حركة حماس وحزب الله (وأطراف المحور الإيراني عموماً)، ما عجزت الآلة الحربية الإسرائيلية عن تحقيقه، ما يؤكد أن واشنطن تمارس دبلوماسية "التفاوض تحت النار"، لإرغام الجميع على الرضوخ للاشتراطات الإسرائيلية.
تتعلق الملاحظة الثالثة بأثر العامل الإسرائيلي في مسار الوساطة القطرية، وانتهاج نتنياهو سياسة تقليص صلاحيات الوفود التفاوضية الإسرائيلية، ومحاولاته التلاعب بأدوار الوسطاء، سيما تفضيل دورَيْ مصر والإمارات، في مقابل تقليص دورَيْ قطر وتركيا، وتوظيف إسرائيل لوبيات ومجموعات داخل الكونغرس الأميركي، لدفع إدارة بايدن لممارسة ضغوط على قطر وتركيا، لطرد قادة حماس الموجودين في الدولتين.
وعلى الرغم من فشل سياسة التحريض الإسرائيلي ضد دور الدوحة عموماً، فإن سياسة إسرائيل اغتيال قادة المقاومة، وتكثيف ارتكاب المجازر بحق المدنيين، والاستهداف المتكرر للصحافيين والإعلاميين المرتبطين بقناة الجزيرة والتلفزيون العربي، كلّها عوامل أوجدت "مناخاً ضاغطاً" على الوساطة القطرية، خصوصاً أن الدوحة لم تتوانَ في التعبير عن مواقفها الواضحة من هذه الممارسات الإسرائيلية، كما ظهر من إدانة رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني (31/7/2024)، اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، واستنكاره "أن تجري مفاوضات يقوم فيها طرفٌ بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته".
تتعلق الملاحظة الرابعة بالتحدّيات العربية والإقليمية أمام الوساطة القطرية، ومنها تداخل مسارات حرب غزّة مع تعقيدات الصراع الإقليمي، خصوصاً تغيّر نمط العلاقة بين إيران وإسرائيل، من حروب الظلّ والحروب السيبرانية والمواجهة عبر الوكلاء، إلى مستويات أعلى من "المواجهة المباشرة" عبر القصف المتبادل؛ إذ تسعى واشنطن وتل أبيب إلى "تصعيد محسوب" ضد إيران، بما يكفل لهما استعادة الهيمنة والردع إقليمياً، وتعزيز معادلة جيوسياسية تخدم المصالح الأميركية، في حين تتمسّك طهران بمعادلة الردع التي أوجدتها على مدار العقدين الماضيين، بعد احتلال العراق ربيع 2003.
ينتهج نتنياهو سياسة تقليص صلاحيات الوفود التفاوضية الإسرائيلية، ومحاولاته التلاعب بأدوار الوسطاء
وإلى ذلك، ثمّة أدوار عربية ودولية منافِسة للوساطة القطرية، خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية التي يجري فيها البحث عن إطار جديد للتسوية، كما تكشفه ثلاثة أمثلة على الأقل: انخراط فرنسا الواضح في ملف الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتنظيمها مؤتمر باريس لدعم لبنان (24/10/2024). اقتراح مصر (27/10/2024) مبادرة لوقف إطلاق النار يومين، مقابل تحرير أربعة محتجزين إسرائيليين. استضافة السعودية الاجتماع الأول للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين (31/10/2024)، ودعوة السعودية إلى عقد قمة متابعة عربية إسلامية في المملكة (11/11/2024)، لبحث استمرار العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية واللبنانية.
وعلى الرغم من تصاعد التحدّيات أمام الوساطات والدبلوماسية القطرية عموماً، سواء في غزّة أم لبنان أم في محاولات تخفيض التوتر في إقليم الشرق الأوسط عموماً، تتمسّك الدوحة بمقاربتها في دعم قضية فلسطين، وتأكيد الرؤية القطرية في حلّ الصراعات، عبر الدبلوماسية والحوار والتفاوض، والعمل على نزع فتيل الأزمات الإقليمية.
يبقى القول إن نتيجة الانتخابات الأميركية ستشكّل عاملاً جوهرياً في حسم اتجاه إقليم الشرق الأوسط، إما نحو مرحلة من التسويات والحلول والتهدئة، أو الانزلاق أكثر نحو توسّع الصراعات الإقليمية، وربما الدخول في حالة من "الفوضى الإقليمية الشاملة"، التي سيكتوي بنارها الجميع، خصوصاً أولئك الداعمين لسياسات اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وأنصار سياسات "القوة العارية" وسحق الإنسان الفلسطيني والعربي بلا هوادة.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.