سيعرفون في النهاية أسماءهم

20 يونيو 2014
معتوق أبو راوي / ليبيا
+ الخط -

لأنّ في الأمر عيبًا فهي تُحجم عن ذكر اسمه. لقد شرعت بحياكة صوره على اللحاف، وكلّ صورة ترقع شيئًا من ذكراه. إنّه يلعب كرة السلة في الساحة. إنّه يقطّع الشمّام ويجهّز الطّعام في نزهةٍ في عيد ميلادي. إنّه يبتسم قرب وردةٍ بريّة أمام درّاجته المعطّلة. إنه يرسمني بأشكال كرتونية، ويجلس على برميل الزيت الذي يعلوه الصدأ. اليوم مترَعٌ بالساعات ولا شيء مع ذلك يُنجَز.

أُدركُ أن لا مغزىً من النظر إلى النجوم ليلًا. إن كانت روحه قد خرجتْ فلن تكون قابعةً حتّى اللحظة في السماء، وإنما ستكون أرواح الحيوانات قد اصطادتها. إنّ هذا امتحانٌ نحن جميعاً لَوارِدوه. هذا ما يقوله القاصّون. لم يعدْ أحدٌ يصدّقهم ولذا لم يبق سوى ثلةٍ تعرف ما يجري. لكنّي على أية حال أشاهد السماء. على التّخوم الشمالية أجده حين تلمع النجوم لوهلة قصيرة قبيل الفجر.

في شبابه كان صيادًا عظيمًا يصيد السمك والحيوانات. كان يركض في الصحراء ليرسم خطوطًا للحيوانات كي تتبعها. كان يعمدُ إلى دراجته فيصلحها ويقودها في اتجاه الصخور. كان في سعيه لتحديد حافّة الأرض التي أخبرني عنها يصرخ اسمه بين الوِهدان: "أنا، أنا" وكان يجلجل، وكأن الأيامَ حجارة تتهاوى كلها من حوله.

إنْ أوشك الفجر يطلع وهو بعدُ لم يعد كنت أدرك أنّه مسحور. كنت أستطيع سماع صوته، يتكلم بسرعةٍ كما الوقتُ، ويدخل إلى ذاك المكان حيث يصل إليه دعاؤها. أعرف أنه سمعها. كلماتها كانت غير واضحة، هذا صحيح. ولكن من ذا الذي لم يخفّفْ من وجع القلب بشُربِ شيءٍ من الموتِ كل يوم.

ما كان قد ولج دمَه أضحى يباع في الشارع وهو على الأغلب نارٌ بحلاوة جهنّم. لقد منحته كما نعتقد تجليّاتٍ تبلغ من الجمال حدًّا تستحيل فيه عيوبًا، ولا قصدَ منها سوى أن تُحفظ وتُخفر من قبل أولاء المحرومين من أحلامهم.

الحياة هي الأيام التي تقضيها باحثًا عن اسمك. أخبرَه بذلك والده قبيل أن يفارق الحياة. أطلقتُ عليه اسم شاعر البالون الكبير، ذلك أنّه حين تأتيه لحظة تجلٍّ كان ينظم قصائد غزلية على قطع من الورق المائل للخضرة، ثم يضع الورقة داخل بالون أحمر يملؤه بالهيليوم ويتركه يرقى في السماء. كان يقول إنّ من يعثرون على قصائده سيقعون في الحبّ. دومًا سيخضعون لجنونه كما يقول. سيعرفون في النهاية أسماءهم.

مرةً غادر ولم يرجع قطّ. فتّشت هي عنه في الأزقة وبين القنوات، وفي الشوارع غير النافذة والمباني المهجورة. قال الشّيوخ، لقد ضلّ في إحدى رؤاه ولم يستطع العودة.

حين عثروا في النهاية عليه كان جثةً من دون اسم نهشتها الكلاب المستوحشة، فأعدناه إلى مسقط رأسه. سنحرق عظامه كي يتمكّن الأجداد من العثور عليه من بين الرماد، أن يلمسوا اقتضاب وجهه، وأن يسمعوا ارتفاع صوته وهو يبحث عن طريق العودة.

كم يبدو العالم موحشًا حين لا يكون لك اسم، حين تعوي الذئاب البريّة في الوهاد، وحين ينتظر عند أدنى الأفق خطّ متلبّدٌ من الغيوم في انتظار ميلادها. كم من الوحدة تقطن في العبوات الفارغة على جانب سريرها. يمكنني أن أسمعها منتظرةً وهي تفكّر في أن كل فجر يطلع سيجلبه إليها من جديد.

(ترجمة محمد زيدان)

* Mario J. Gonzales كاتب وأكاديمي مكسيكي أميركي، مختصّ بعلم النفس وأنثروبولوجيا الثقافة. يعيش في نيومكسيكو ويعمل أستاذًا جامعيًا فيها منذ أربعة عشر عامًا. حاز عام 2012 جائزة مؤتمر تاوس سَمَر للكتّاب من أصول لاتينية. 

** عنوان القصة الأصلي بالإنجليزية: "كل ما يغادر يؤوب يوماً ما".

المساهمون