يتيح لي مستمعي، بتساهل وافر، أن أتعثر في السرد، وأن أتردد وأتراجع وأعيد الصياغة، أو أن أبدأ من جديد أحياناً، أو أن أكرر بنبرة مختلفة، دون أن يفقد شغفه بالاستماع، بعد كل شيء. وعندما أنجح في سرد قصتي، وأنقلها محمّلة بالشحنة التي لها بنفسي دون بخس أو تحوير، يراقب مستمعي فرحتي بصمت، ويترك لي المجال الكافي لتأمل ما حكيت كقطعة كاملة، كما يتأمل النحات عمله.
والأهم أن مستمعي كان يقدر جيداً ظرفي، فلا يصدر أي صوت، ويختفي إذا ما سمع حركة غير مألوفة في الممر، ولا يلحّ عليّ حين أفقد رغبتي في السرد، ثم ما إن تتجدد رغبتي وتكتمل حتى يحضر من جديد.
مستمعي سهل وهيّن وأليف، على خلاف مستمع شهرزاد، وأنا أيضاً على خلاف شهرزاد لا أحكي كي أكسب الزمن بل كي أبدده. كانت تتفنن صاحبة ألف ليلة وليلة في شراء عمرها المنتهي، وأنا أتفنن في إنفاق عمري المحجوز.
كان مستمعها يملك كل أمرها، ويملك أن يمنحها الوقت لقاء الحكايا، أما أنا فأحكي لمن لا يملك من أمري أو من أمر نفسه شيئاً، لا يملك سوى أن يمنحني متعة السرد. أنا أخترعه كما أشاء، أجعله شخصاً شغوفاً بقصصي، جيد الإصغاء. أجلسه إلى جواري، وأبدأ بسرد حكاياتي التي تحيل زمني الثقيل إلى بخار متطاير.
ليس لمستمعي، على خلاف مستمع شهرزاد، جنود جاهزون لتنفيذ أوامر القتل، بل هو متآمر خفي ضد السلطات جميعاً، يعين الضحايا على عبور المحن، يتخذ الشكل الذي تحتاجه الضحية. بالنسبة لي، يساعدني كائني الخفي، على وضع ملامح فوق الهلام، على تمرير زمن أملس لا نهائي يُحسب عمراً لي.
أخترع مستمعي وأستفيض في السرد. مستمعي لا مرئي وصوتي غير مسموع، ولكن الشروط كاملة، مع ذلك، لخلق شرنقة المتعة هذه. قاص ومستمع وحكاية. قاص مغرم بصياغة الحدث، ومستمع شغوف بالإصغاء، وحدث قريب من قلب القاص الذي هو بطل الحدث وضحيته وراويه. عناصر كافية لتطويع الزمن، تجتمع لتخلق شرنقة مضاءة ومهواة في محيط معتم أصم. في الشرنقة تخف وطأة الزمن حين تدور الحكايات.
أخترع مستمعي كما أشاء، تارة يكون على هيئة امرأة تستفظع، بقلب رقيق، ما أروي من عذابات، ويروق لي انفعالها الذي يدغدغ رجولتي، أنا الذي عبرت "بسلام" هذه المرويات التي تستولد كل هذا الاستفظاع.
وتسعدني قدرتي على تلوين وجه مستمعتي بتعابير تجمع بين الدهشة والتعاطف الذي يجمع بدوره بين الأمومة والأنوثة، حتى يبدو لي أنني بذلك إنما أسترد خسارتي. وتارة يأتي مستمعي على هيئة رجل حكيم هادئ يمتص حكاياتي باهتمام، يصغي إلي بعينيه كما بأذنيه، ويجد لقصصي مكاناً مناسباً في خانات حكمته الواسعة.
أحياناً يكون مستمعي جمهورا صغيرا، مجموع أقاربي المتلهفين لمعرفة ما حلّ بي. أو مجموع أصدقائي الذين يبحثون مثلي عن معنى أو قيمة يخلصون لها. أو ربما مجموعة من التلاميذ الذين يستمعون إلى شهادة حية من عجوز مرّ في تلك التجربة ولا يزال جاهزاً لقصها على الأجيال.
وفي حالات ليست نادرة، يأتي مستمعي على هيئة شخص يستخف بمروياتي ويستهين بخسارتي، فأسارع إلى حذفه بعد فشلي في تحمله. يتلاشى مستمعي الثقيل هذا، ولكن تتلاشى معه رغبتي في السرد، وحين تعود تتخذ لبوس رغبة أخرى أقرب إلى رغبة الانتقام.
بعد ذلك، يختفي القاص والمستمع والحكاية من الشرنقة. يتحوّل القاص إلى سيّد متحكم من نوع ما، قاض أو محقق أو مجرّد رجل مسيطر بالقوة، أما المستمع فيتحول إلى شخص محدد الملامح، ومرشح إلى أن يكون ضحية وشيكة، شخص له اسم وتاريخ ميلاد ورتبة عسكرية، أما الحكاية فتتحول إلى انتقام منظم على شكل محاكمة يقودها الراوي، أو إلى انتقام صاخب رهيب على شكل التحقيق الذي كانت تتسيّده عادة هذه الضحية الوشيكة، وقد تتحول الحكاية إلى انتقام عنيف يفجر الشرنقة ويحطم الأدوار، ويعيد الراوي من جديد إلى زمنه الواقعي، محبوس في زنزانة مظلمة.
* كاتب سوري