منذ بضع سنوات، كان لي موعد مع صديقة مغربية من أصل لبناني، زوجة سابقة لأحد كبار الفنانين المغاربة وناقدة فنية، بزقاق ليتري، غير بعيد عن برج مونبارناس في المقاطعة السادسة بباريس. التقينا في رواق صغير من طابقين يحمل اسم كلود ليمان، الذي نظّم منذ الثمانينيات العديد من المعارض لكبار الفنانين اللبنانيين ومن بينهم شفيق عبّود. كانت دهشتي عارمة حين صادفتُ وقتها معرضًا لشفيق عبود، الفنان اللبناني الباريسي الذي يمكن عدّه إلى جانب ثلة من مجايليه، الأشهر والأكثر إبداعًا وحداثة. من حسن حظي أنه قُيِّض لي أن أحضر سنة 2011 معرضه الاستعادي في معهد العالم العربي في باريس، فتكتمل لدي النظرة عن هذا الفنان الذي كان اللون إحدى سمات أعماله المشرقة.
تضمَّخت طفولة شفيق عبود المولود سنة 1926 بالمحيدثة في جبل لبنان، بوهج الحكايات وأنوار الجبل. هكذا سوف تظلّ ما يسميه في ما بعد "سنوات العصفور" مجالًا خصبًا لوعيه البصري. وفي باريس سيتخلّص عبود من تشخيصيته ليرتاد مجاهيل التجريد، بتأثير من رينيه بيسيير René Bessière وبيير بونار Pierre Bonnard وغيرهما. كان إلى جانب ثلة من الفنانين العرب، استمرارًا لمدرسة باريس، تلك التي طبعت مراحل بكاملها في الخمسينيات والستينيات.
غير أن ولع عبود بالتشكيل لم يكن مطلقًا. فقد كان مهووسًا بالليثوغرافيا (الطباعة الحجرية). ولعٌ أتاه حتمًا من عشقه للشعر وللكتاب، بحيث كان أوّل فنان عربي يصدر كتابًا بهذه التقنية في بداية الخمسينيات. كما أنه جرّب في الثمانينيات الخروج من اللوحة، سواء عبر ممارسة الرسم على السجاد أو النحت بالخزف. هذا الاهتمام بتجديد الأسندة جعله يكرّس وقتًا كبيرًا، أنتج منه عملًا هائلًا من ثلاثين متر مربع، شكّله بالخزف والنحاس.
وأنت تتجوّل بين عطاءات هذا الفنان، لا يمكن إلا أن تجد نفحةً شعريةً عارمة تتلقّف بصرك. قصائد روني شار، التي كتبها عن الغابة، تكاد تكون مصاحبة لموسيقى هذه اللوحات. ثمّة في كلّ ما يرسمه عبود ضربٌ من الانتفاضة "المتبركنة". تحسّها تنطلق من فوّهة في اللوحة، غالبًا ما تكون في الوسط لتتوالى شذراتها؛ عبارة عن مساحات صغيرة قلقة متواشجة تنسج في اللوحة ضربًا من التوالد الطبيعي. أليس هو القائل: "لا يمكننا أن نخطط للوحة سلفًا. فأنا لا أتصوّر أبدًا لوحة منتهية منذ البداية، إنها تنصاغ في الفعل والحركة، وتتكثّف شيئًا فشيئًا".
قيل كثيرًا عن شفيق عبود إنه فنان حكّاء وإنه فنان تلويني.
اقرأ أيضاً: ما وراء الاستشراق: المرأة والفنّ
أمّا الحكاية فإنها في لوحاته ومنحوتاته ومشاريعه الفنية المتعدّدة، تتشذّر إلى ما لانهاية. وكأنه، حين يستعيد حكايات جدّته في تلك القرية المسيحية من جبل لبنان، تكاد تلك الحكايات ألا تسع فورانه. أو كأنه، يتعامل معها كما مع مزيج الصبائغ، فتتهادى بين يديه وتتراقص لتغدو حكاية متناسلة، على طريقة شهرزاد أو على طريقة الهايكو. والحقيقة التي نستنبطها من أعماله بكاملها، حتى الحكائية منها في أواخر الأربعينيات، أن الحكاية تتحوّل لديه إلى مقطوعات شعرية، ذات إيقاع متناسج، لا يصوغ تجانسها غير الدقّة التي بها تتبلور النبرات اللونية الخاصة به.
الحكاية لدى عبود تشابكٌ من المساحات، تنبني وتتواشج في شكل منظر تجريدي. والتجريد لغةً كما نعلم، هو التعرّي، بحيث إن التجريد لديه عبارة عن بحث عن الجسد المجازي للمدينة والجبل. نجد أنفسنا في لوحاته، أمام مزيج سلس بين الحضري والبدوي، وبين البنيات وانفلات النظر في المساحات الطبيعية. وأن يصل فنان بهذا الشكل إلى هذا المزيج، أمر يعني أنه يتملّك كل ّشيء باعتباره منظرًا قابلًا للتشكّل في البصر والبصيرة معًا.
هذه "الجدلية" تحيل إلى نظرة عصفورية، تلتقط المكونات وتنسجها، كما لو أنها تعيد خلقها في نظرة هوائية سابحة فوق الأشياء. لا حكاية متسلسلة إذن. لا حكاية هنا إلا وهي تنفلت من العين دفعة واحدة. وحتّى حين رسم عبود سلسلة الفساتين في الثمانينيات، فقد صنع منها منظرًا بنائيًا يكاد يكون مزخرفًا. الفستان مظهر للجسد الأنثوي، يلفّه ويبرز مفاتنه. إنه مجاز الجسد وكنايته. هكذا تتسربّل الفساتين معبّرة عن سلطة المظهر وعن مقام الجسد ومسكنه وبشرته الثانية. هنا مكمن الحكاية مرّة أخرى. إنها حكاية مواربة تستلطف العالم من خلال مرئيِّه وتستنطق كيانه في عبقه.
الحكاية دومًا لدى عبود حكاية ملونة. واللون منبع النور، ذاك الذي يلفّ القرية التي ولد فيها كما يلفّ حكايات جدته. ولذلك، وإن كان محسوبًا على مدرسة باريس وعلى تجريديتها، فإن ذاكرته وحساسيته ظلّتا مشدودتين لأنوار الشرق، الذي احتضن طفولته وشبابه. ثمة دومًا الانطلاق من نبرة لونية كما من نوتة موسيقية، تحوم حولها باقي الألوان. وحين يستعمل اللونين الأبيض والأسود، فكأنه يجمع شتات العالم في لون عينيه.
ثمة شيء في لوحاته يجعلها راقصة. ربما لهذا السبب كان ولعه بالفساتين. إنها رقصة الوجود، التي لا نحسّ فيها إلا نادرًا بنسمة حزن أو كآبة. والذاكرة البصرية فيها، تبدو وكأنها تتحرّر من مأساوية الوجود. وثمّة مفارقة في التشكيل لديه: فتشذيره التجريدي للعناصر البصرية المرئية، يجعله ينحو منحى شعريًا واضحًا، كاشفًا عن ثنائية المأساة والمرح. مأساة مرحة وسمت جيله، ربما لأنه عاش في باريس المرحلة الأقلّ مأساوية في تاريخ أوروبا، فيما كان العالم العربي يعيش مآسيه الأكثر تعبيرًا عن ضياع الهوية.
والعودة بشكل موارب إلى التشخيص، تعبيرٌ آخر عن المعضلات النفسية التي كان يعيشها عبود بصمت، ما أدى به إلى محاولة انتحار سنة 1973. وهكذا تكشف القراءة العمودية لعمله الوافر والمتعدّد، عن شخصية فنان ذي هشاشة عالية، يحمل مصيره على أطراف أنامله، وتنطبع مأساته الشخصية كما مأساة العالم على بشرته، يتشرّب علْقمها، ولا يُخرج منها في لوحاته سوى بسمة مطرزة بالألوان، تكاد تخفي وهج الألم المتأجّج داخله.
تضمَّخت طفولة شفيق عبود المولود سنة 1926 بالمحيدثة في جبل لبنان، بوهج الحكايات وأنوار الجبل. هكذا سوف تظلّ ما يسميه في ما بعد "سنوات العصفور" مجالًا خصبًا لوعيه البصري. وفي باريس سيتخلّص عبود من تشخيصيته ليرتاد مجاهيل التجريد، بتأثير من رينيه بيسيير René Bessière وبيير بونار Pierre Bonnard وغيرهما. كان إلى جانب ثلة من الفنانين العرب، استمرارًا لمدرسة باريس، تلك التي طبعت مراحل بكاملها في الخمسينيات والستينيات.
غير أن ولع عبود بالتشكيل لم يكن مطلقًا. فقد كان مهووسًا بالليثوغرافيا (الطباعة الحجرية). ولعٌ أتاه حتمًا من عشقه للشعر وللكتاب، بحيث كان أوّل فنان عربي يصدر كتابًا بهذه التقنية في بداية الخمسينيات. كما أنه جرّب في الثمانينيات الخروج من اللوحة، سواء عبر ممارسة الرسم على السجاد أو النحت بالخزف. هذا الاهتمام بتجديد الأسندة جعله يكرّس وقتًا كبيرًا، أنتج منه عملًا هائلًا من ثلاثين متر مربع، شكّله بالخزف والنحاس.
وأنت تتجوّل بين عطاءات هذا الفنان، لا يمكن إلا أن تجد نفحةً شعريةً عارمة تتلقّف بصرك. قصائد روني شار، التي كتبها عن الغابة، تكاد تكون مصاحبة لموسيقى هذه اللوحات. ثمّة في كلّ ما يرسمه عبود ضربٌ من الانتفاضة "المتبركنة". تحسّها تنطلق من فوّهة في اللوحة، غالبًا ما تكون في الوسط لتتوالى شذراتها؛ عبارة عن مساحات صغيرة قلقة متواشجة تنسج في اللوحة ضربًا من التوالد الطبيعي. أليس هو القائل: "لا يمكننا أن نخطط للوحة سلفًا. فأنا لا أتصوّر أبدًا لوحة منتهية منذ البداية، إنها تنصاغ في الفعل والحركة، وتتكثّف شيئًا فشيئًا".
قيل كثيرًا عن شفيق عبود إنه فنان حكّاء وإنه فنان تلويني.
اقرأ أيضاً: ما وراء الاستشراق: المرأة والفنّ
أمّا الحكاية فإنها في لوحاته ومنحوتاته ومشاريعه الفنية المتعدّدة، تتشذّر إلى ما لانهاية. وكأنه، حين يستعيد حكايات جدّته في تلك القرية المسيحية من جبل لبنان، تكاد تلك الحكايات ألا تسع فورانه. أو كأنه، يتعامل معها كما مع مزيج الصبائغ، فتتهادى بين يديه وتتراقص لتغدو حكاية متناسلة، على طريقة شهرزاد أو على طريقة الهايكو. والحقيقة التي نستنبطها من أعماله بكاملها، حتى الحكائية منها في أواخر الأربعينيات، أن الحكاية تتحوّل لديه إلى مقطوعات شعرية، ذات إيقاع متناسج، لا يصوغ تجانسها غير الدقّة التي بها تتبلور النبرات اللونية الخاصة به.
الحكاية لدى عبود تشابكٌ من المساحات، تنبني وتتواشج في شكل منظر تجريدي. والتجريد لغةً كما نعلم، هو التعرّي، بحيث إن التجريد لديه عبارة عن بحث عن الجسد المجازي للمدينة والجبل. نجد أنفسنا في لوحاته، أمام مزيج سلس بين الحضري والبدوي، وبين البنيات وانفلات النظر في المساحات الطبيعية. وأن يصل فنان بهذا الشكل إلى هذا المزيج، أمر يعني أنه يتملّك كل ّشيء باعتباره منظرًا قابلًا للتشكّل في البصر والبصيرة معًا.
هذه "الجدلية" تحيل إلى نظرة عصفورية، تلتقط المكونات وتنسجها، كما لو أنها تعيد خلقها في نظرة هوائية سابحة فوق الأشياء. لا حكاية متسلسلة إذن. لا حكاية هنا إلا وهي تنفلت من العين دفعة واحدة. وحتّى حين رسم عبود سلسلة الفساتين في الثمانينيات، فقد صنع منها منظرًا بنائيًا يكاد يكون مزخرفًا. الفستان مظهر للجسد الأنثوي، يلفّه ويبرز مفاتنه. إنه مجاز الجسد وكنايته. هكذا تتسربّل الفساتين معبّرة عن سلطة المظهر وعن مقام الجسد ومسكنه وبشرته الثانية. هنا مكمن الحكاية مرّة أخرى. إنها حكاية مواربة تستلطف العالم من خلال مرئيِّه وتستنطق كيانه في عبقه.
الحكاية دومًا لدى عبود حكاية ملونة. واللون منبع النور، ذاك الذي يلفّ القرية التي ولد فيها كما يلفّ حكايات جدته. ولذلك، وإن كان محسوبًا على مدرسة باريس وعلى تجريديتها، فإن ذاكرته وحساسيته ظلّتا مشدودتين لأنوار الشرق، الذي احتضن طفولته وشبابه. ثمة دومًا الانطلاق من نبرة لونية كما من نوتة موسيقية، تحوم حولها باقي الألوان. وحين يستعمل اللونين الأبيض والأسود، فكأنه يجمع شتات العالم في لون عينيه.
ثمة شيء في لوحاته يجعلها راقصة. ربما لهذا السبب كان ولعه بالفساتين. إنها رقصة الوجود، التي لا نحسّ فيها إلا نادرًا بنسمة حزن أو كآبة. والذاكرة البصرية فيها، تبدو وكأنها تتحرّر من مأساوية الوجود. وثمّة مفارقة في التشكيل لديه: فتشذيره التجريدي للعناصر البصرية المرئية، يجعله ينحو منحى شعريًا واضحًا، كاشفًا عن ثنائية المأساة والمرح. مأساة مرحة وسمت جيله، ربما لأنه عاش في باريس المرحلة الأقلّ مأساوية في تاريخ أوروبا، فيما كان العالم العربي يعيش مآسيه الأكثر تعبيرًا عن ضياع الهوية.
والعودة بشكل موارب إلى التشخيص، تعبيرٌ آخر عن المعضلات النفسية التي كان يعيشها عبود بصمت، ما أدى به إلى محاولة انتحار سنة 1973. وهكذا تكشف القراءة العمودية لعمله الوافر والمتعدّد، عن شخصية فنان ذي هشاشة عالية، يحمل مصيره على أطراف أنامله، وتنطبع مأساته الشخصية كما مأساة العالم على بشرته، يتشرّب علْقمها، ولا يُخرج منها في لوحاته سوى بسمة مطرزة بالألوان، تكاد تخفي وهج الألم المتأجّج داخله.