"أُنسي" الصاخب الهادئ
هكذا عرفته، هادئاً، رزيناً، لا تحسّ بدخوله المكتب حيث كنّا نجلس للتدقيق اللغوي في جريدة "الأخبار". يحيّي بحياءٍ، ويتكلّم بحياءٍ، ويغادر بحياء.
لكنّ هذا الهدوء ينقلب صخباً وضجيجاً في كتاباته، وصدماً في عباراته.
"أنسي" الذي حرك ورفاقه راكداً في الشعر والأدب منذ ستينيات القرن الماضي، أتركه للدراسين والنقاد يتبحرون فيه.
كان يكتب بخط يده خطوطاً متعرجة، وأسهماً طالعةً ونازلة، ملتوية ومستقيمة، لدرجة أنّه كان لا يفهمها ولا يقدر على تبيّنها إلا الصديق المنضّد والمدقق "إبراهيم عيّاد". والذي كان "أنسي" يسلّمه مقاله مخطوطاً كلّ أسبوع.
وبقدر ما كان خطّ "أنسي" فوضوياً؛ بقدر ما كانت أفكاره منظّمة ومرتبة. وقد درج على معالجة كتاب أو كتابين من الإصدارات الحديثة، ومواكبة حدث أو اثنين من مستجدّات الأدب والفن في عين ذلك الأسبوع، لينثر بعدها بعض الخواطر الفريدة أسلوباً ومعنى. ويلحظ قارئه سعة الاطلاع لديه، وثقافته الموسوعية، وصراحته في نقده دونما تجريح.
قُيض لي أن أزوره في مكتبه المتواضع قبل وفاته بأسابيع. كان مكتبه متواضعاً لأنّه أراده كذلك. ورغم أنّه كان مريضا آنئذ، لكنه ظلّ مواظباً على عمله، يحرر موضوعات الجريدة المهمّة، ويدردش مع الزملاء في مكتب المخرج "إميل منعم".
وأذكر أنّه سألني عن صديقه اللدود "رياض الريّس"، وزميله العتيق في "النهار"، وناشر باكورة شعره وأوّل دواوينه.
قال "أنسي" لي في حق "رياض" كلاماً طيّباً، وأضاف حرفياً: "سلّم لي على رياض. أنا أتابع أحواله، وأخباره يوميّاً من فلان الفلاني"، وذكر لي اسم أحدهم.
وفي اليوم التالي أوصلت السلام إلى الناشر "رياض الريّس"، الذي ردّ بدوره التحيّة بمثلهـا، وحمّلني سلاماً حاراَ لصاحبه القديم، وبات سؤاله لي عن "أنسي" يتكرر كل يوم بعدها.
رحم الله "أنسي"، وأطال في عمر "رياض"، وصَغُرتْ أمّة لا تعرف قدر أدبائها.
أيمن رفيق سنو
مدقق لغوي من أسرة "العربي الجديد"/ مدير التحرير السابق لدار رياض الريس
---
نهر صامت من الأفكار
لغيري أن يتحدث عن الشاعر، عن الأديب، عن الصحافي، عن الأستاذ،
ولي أن أتقرّب في الكلام من الإنسان ـ الأب ـ المعلم ـ "المرشد إلى الهُدى".
يكثر الكلام أو يقلّ، وهو قليل في مطلق الأحوال حين يكون عنه،
عرفته، وأنا صاحب محاولات في كتابة ما أسمّيه قصصاً قصيرة للأطفال، قارئاً لما أكتب وناقداً بلطف شديد ومشجعاً بشغف للأفكار التي ترد في سياقها.
كنت أشعر حين أتلقّى بعض ملاحظاته عمّا أكتب بأنني وصلت أو أكاد إلى مصاف الكتّاب المبرّزين.
قليل الكلام، كثير الأفكار، بل نهر أو محيط منها، تصدر عنه وتتوالد من بعضها بعضاً بعفوية وجمالية تفوق الوصف. جمّ التواضع، محبّ، ناقد بنّاء، يسلّط ضوءاً ساطعاً على ما يراه صواباً، وبخفّة ريشة يقع نقده كأنما هو المديح.
ما راجعني يوماً في ما كتبت ليشير إلى خطأ ما كنت قد وقعت فيه إلا عبر سؤال. والاستفهام في سؤاله دليل على ما يريد إيصاله إليّ. فكان يجيء على هيئة مستفهم عن معنى ما التبس عليّ أنا وليس عليه، ولكنه يريد الإشارة إلى خطئي بصيغة سؤال ينبّهني عبره إلى الخطأ.
تقرّباً إلى قامتك أنسي الحاج، أنحني، خجولاً، حاسر الرأس.
وداعاً أيها الحيّ ـ الحيّ. الحيّ، بالتأكيد، كما كنت تقول عمّن رحلوا تاركين أثراً لجمال باقٍ أبد الدهر.
وداعاً، وإلى لقاء..
إبراهيم عيّاد
مدقق لغوي من أسرة "العربي الجديد"/ المدقق اللغوي السابق في جريدة الأخبار
---
أُنسي قارئ حظنا
كم أن الانسان رخيص. ببساطة يصل خبر موت أنسي الحاج. رجل بهامته وكبريائه يرحل ببساطة. أسوأ ما في الخبر أن لدى أنسي الحاج الكثير ليقوله. لديه الكثير ليفعله. يعرفه الناس كشاعر ولا يُمكن لأحد أن يُقلّل من قيمة ما قدّمه شعرياً. لكن الأكيد، بالنسبة لي على الأقل، أن أنسي الحاج الانسان والصحافي ليس أقل من أنسي الحاج الشاعر. لست بناقد شعري لأقيّم. هو مجرد رأي لمن عايش هذا الرجل.
عندما بدأنا بالعمل في جريدة الأخبار البيروتيّة، وضعنا حاجزاً مع أنسي الحاج. هو مستشار هيئة التحرير، ورئيس التحرير السابق، والشاعر. لم نكن نحن الصحافيين الشباب، من كسر هذا الحاجز. بادر أنسي الحاج بنفسه لكسره. فتح مكتبه أمامنا. كان يستمع إلينا مذهولاً. كان يُشعرنا بأننا الجيل الذي سيُدير هذه المهنة. أمضى أنسي ساعات طويلة في قراءة مواد لصحافيين مبتدئين. حضنهم وصنع منهم صحافيين.
من هواياته المحببة مع الجميع كانت اكتشاف شخصيات الناس من خلال الأبراج. وهو الخبير بهذا المجال. ليس الأمر على طريقة جماعة الابراج لبنانيّاً. كان جميلاً بحثه في هذا المجال.
الكلام عن أنسي الحاج صعب جداً. الثابت الوحيد أن موته ظالم. ظالم جداً. ظالم لنا، من عرفوه عن قرب، ومن لم يعرفوه. كان لديه الكثير ليقول لنا. أين رحلت يا أنسي؟ نحن لا زلنا بحاجة لأن نغرف منك. بكل أنانيّة، لا زلنا بحاجة لك. رحيل كرحيلك موت لنا. نحبك أنسي الحاج.
ثائر غندور
صحافي من أسرة "العربي الجديد"