تعود الصحيفة، خلال سردها للأحداث الدرامية في سيرة تشارلز، إلى لحظة مفصليّة تغيّر عندها كلّ شيء، وبدأ التفكير في البحث عن حياة جديدة.
معسكر اعتقال سياسي
ضعيفًا ومستنفذًا، وعلى قارعة أحد الشوارع في كوريا الشمالية، انهار تشارلز، ذو الـ14 ربيعًا وقتذاك، حينما لم يستطع أن يواجه 18 ساعة عمل أخرى من الأشغال البدنية الشاقة، خصوصًا بمثل تلك المعدة الفارغة.
وقتذاك، كان تشارلز محتجزًا في معسكر عمل سياسي من قبل نظام كيم جونغ أون القمعي. كان غذاؤه اليومي مجرّد حفنة من الذرة التي تستخدم لإطعام الخنازير والأبقار.
لكن في ذلك اليوم تحديدًا، لاحظ بقعة من القيء على الرصيف. كانت هناك لفترة من الوقت. لربّما تناول أحد الحراس الكثير من مشروب "سوجو"، المشروب الكحولي القوي والمفضل في كوريا الشمالية.
شمس الصباح كانت قد جفّفت في حينها بقعة القيء تلك، وتركت بعض حبيبات الأرز غير المهضوم. الجوع سيجبر تشارلز على اتّخاذ خيار غذائي غير متصوّر. دون تفكير، وضع تشارلز في فمه كلّ ما استطاع جمعه، ثم تجرّعه في جوفه من دون أن يبتلعه. يقول: "كان مذاقه جيّدًا"، وبطريقة أو بأخرى، استطاع أن يضحك على تلك الذكرى المروعة.
الكوريون الشماليون يريدون السلام
هرب تشارلز من دكتاتورية كوريا الشمالية إلى الولايات المتّحدة وهو في سن الـ17. يقول إنه في الوقت الذي يعيش فيه كيم جونغ أون ونخبه العسكرية حياة ترف في العاصمة بيونغ يانغ، فإن الغالبية العظمى من السكان، البالغ تعدادهم 25 مليون نسمة، تتضوّر جوعًا وتتوق للتغيير.
لا تزال كوريا الشمالية معزولة عن بقية العالم، بفعل برنامج كيم جونغ النووي، الذي أدى إلى فرض عقوبات من الأمم المتحدة، وذبول الاقتصاد.
وتفاقم الأمر مع انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واشتعال الحرب الكلامية بين اثنين من القادة المضطربين في الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، التي أوصلت البلدين إلى حافة الحرب.
لكن كيم يبقي مواطنيه خائفين من أية مقاومة، مع تهديدهم بمعسكرات الاعتقال وبعمليات الإعدام العلنية المروعة لأولئك الذين يخالفون القواعد. اختار تشارلز، في مقابلته مع الصحيفة، التحدث بشجاعة نيابة عن العديد من الكوريين الشماليين الذين لا يريدون الحرب مع الغرب، ولكنهم يحتاجون المساعدة بدلًا من ذلك.
الولاء يحدد الطبقة
يتشارك تشارلز، الذي بلغ الـ24 عامًا الآن، مع مجموعة من المتدرّبين الشباب الذين يعملون من أجل الحرية في كوريا الشمالية، ضمن مؤسسة خيرية مقرّها في لوس أنجليس، تساعد المنشقّين على الهرب.
لكن وراء الابتسامة الحميمة، ثمّة قصة مروعة من البقاء على قيد الحياة في وجه كافّة الاحتمالات.
ولد تشارلز ضمن الفئة المسمّاة في كوريا الشمالية بـ"طبقة المتذبذبين"، وهي الدرجة السفلى من نظام الطبقات الصارم في كوريا الشمالية الذي يقرر مصير المواطنين، وينبني بدرجة كبيرة على أساس تاريخ ولاء عوائلهم للنظام.
كان قدر تشارلز الوحيد، تبعًا لذلك، الخدمة في الجيش، ثمّ قضاء ما تبقّى من حياته عاملًا في الأشغال الزراعية المضنية. أولئك "المترددون"، كما يقول تشارلز، في العادة تخبرهم الحكومة في كوريا الشمالية ما ينبغي عليهم القيام به: "هم يقولون الجميع متساوون، لأنها الشيوعية، لكن الطريقة الني نرى بها الأشياء مختلفة.. الناس في الطبقات العليا لا يحتاجون حتى إلى العمل".
جيمس بوند واكتشاف العالم الآخر
معظم الكوريين الشماليين، مثل تشارلز تمامًا، لا يملكون فكرة عمّا تبدو عليه الحياة خارج قريتهم في أي مكان آخر عبر العالم. "ليس ثمة تويتر، ولا غوغل، ولا فيسبوك، شبكة الإنترنت محظورة"، يقول تشارليز، مردفًا: "الصين تساعدهم على حظر الإنترنت، كوريا الشمالية لا تملك تلك التكنولوجيا".
حتّى الحصول على خدمة الاتصالات لا يتيسّر بتلك السهولة. يقول تشارلز: "أعتقد أن خدمة الهاتف لا يمكن أن تقدّم من مدينة إلى أخرى، وقطعًا هي ليست إلى خارج البلاد".
لكن مع وجود أخ غير شقيق له يعيش في الصين، كان تشارلز واحدًا من الأشخاص القليلين الذين بدؤوا يتعلمون عن العالم الأوسع. كلاهما خطّط من أجل تهريب أشرطة لأفلام "هوليوود"، مثل جيمس بوند و"باد بويز".
كان ذلك الأمر خطرًا حقيقيًّا، فشرطة كيم السريّة كانت تتعامل بشراسة مع أي شخص تقبض عليه وهو يشاهد وسائل إعلام أجنبية. تعتبر كوريا الشمالية تلك الأفلام دعاية، كما يقول تشارلز، "الدول الأجنبية تحاول السيطرة على أراضينا، وجعلنا عبيدًا"، هذا ما كانوا يقولونه للناس.
تبعًا لذلك، دائمًا ما كانت تستهدف الشرطة كل الوسائط المتعلقة بالإعلام الأجنبي. وحتّى يحققوا ذلك، كما يقول تشارلز، "كانوا يقطعون التيار الكهربائي قبل الدخول إلى المنزل، حتى يضمنوا أن يكون الشريط عالقًا في المشغل".
أما ما يحصل بعد ذلك، فلا يعدو واحدًا من اثنين: "إذا كان لديك ما يكفي من المال يمكنك حينئذ أن تقدم لهم رشوة؛ وإن لم يكن فسينتهي بك المطاف في معسكر للعمل السياسي لمدة 10 سنوات".
وحتّى يضمن تشارلز ألا يقع في قبضة الشرطة السرية، كان يختبئ دائمًا تحت البطانيات مع أصدقائه، ويقفل الباب، ويخفض الصوت حتّى ينكتم تمامًا.
يقول: "عندما شاهدت الدراما الكورية، اعتقدت أنه كان بوسعهم أن يقولوا ويفعلوا كلّ ما يريدون. مشاهدتها مرة بعد مرة، كانت تجعل الأمر منطفيًّا. لا يمكن أن يكون ذلك مزيفًا".
ومع شعوره بأنه مذنب، هرّب والد تشارلز مع ابنه إلى الصين عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، وهناك ذاق أول طعم للحياة خارج كوريا الشمالية: "كان بوسعي أن آكل كلّ ما أريد، وأشاهد كلّ ما أريد. لقد كان أمرًا يفتن العقل".
غسل الدم عن الجدران
لم تدم تلك السعادة طويلًا، فقد دفعت الشرطة الصينية للسكان المحليين 500 يوان للشخص الواحد، أي حوالى 60 يورو، للتبليغ عن المنشقّين عن نظام كوريا الشمالية.
استطاعت الشرطة بعد ذلك إلقاء القبض على تشارلز ومئات آخرين مثله، معظمهم من الأطفال والنساء، وسلّمتهم إلى السلطات في بيونغ يانغ.
أمضى تشارلز شهورًا وهو يستجوب عمّا كان يفعله في الصين. يقول: "كنت طفلًا، الجميع أخبرني أنني سأكون بخير". ذلك ما يستذكره تشارلز والألم لا يزال منقوشًا على وجهه. "فقط أخبرهم، أنت لم تكن تعرف أي شيء، وأردت فقط الهروب للعثور على بعض الطعام". هكذا قالوا له.
لكن كلّ ذلك لم يسعفه عندما أصبح في الحجز: "لم أتعرض لضرب شديد حقًّا، لكن في الليل سمعت الناس يصرخون، وخلال النهار حينما ذهبت إلى مكتب الاستجواب، رأيت الدم في كلّ مكان. لقد كانوا يحاولون غسله عن الجدران".. "كان بإمكانك أن ترى البقع على الحائط".
"كنت أستطيع أكل حجر"
حكم على تشارلز بالعمل فترة غير محددة في معسكر عمل سياسي لمحاولته الهرب من كوريا الشمالية، وهو لمّا يتجاوز الرابعة عشرة بعد.
الظروف كانت مروّعة، السجناء هناك كانوا يجبرون على العمل لمدّة تصل إلى 18 ساعة في اليوم، وغذاؤهم الوحيد كان حفنة من الذرة تستخدم عادة لتعذية الخنازير والأبقار. يقول تشارلز: "لقد وضعوا الذرة في الماء فترة طويلة حتى تصبح مزدوجة الحجم".
على امتداد الشهور الثلاثة الأولى، كانت لا تزال لدى تشارلز بعض اللحوم في المعدة، وبعض الزيت: "قلت لهم، كيف يمكنكم أن تأكلوا هذا؟ لاأستطيع أكله.. سأعطيه لشخص آخر، لكن بعد أربعة أشهر، كنت سأجن، كان بوسعي مضغ صخرة من شدة الجوع".
كلّ يوم، كان على تشارلز وزملائه السجناء أن يتلوا أربعين "التزامًا" تتضمّن وعودًا بالبقاء مخلصين لكوريا الشمالية، وألا يخبرو أحدًا عن الحياة في الصين. في بعض الأحيان، كان السجناء يخضعون لـ"اختبار الأسئلة السريعة"، وإذا قدّم أحدهم إجابة خاطئة، فسيكون لزامًا عليه أن يسهر الليل كلّه يردد الالتزامات الأربعين حتى الصباح.
"الكثر من الناس ماتوا"، يقول تشارلز، "إذا لم تكن لديك عائلة تجلب لك الطعام؛ فمن المستحيل حقًّا البقاء على قيد الحياة.. كثافة العمل، البعض كان ينتحر أحيانًا".
لكن رغم ذلك، كان تشارلز يقنع نفسه يوميًّا بأنه سيهرب يومًا ما: "بمعزل عن كل الظروف، سأبقى على قيد الحياة وأخرج من هنا، سأهرب وأخبر العالم كلّه عمّا يجري في كوريا الشمالية".
في كوريا الشمالية اليوم، ثمّة 120 ألفًا يعيشون في الظروف ذاتها التي عاشها تشارلز؛ هذا ما يقدّره تقرير للأمم المتّحدة، رغم أن كوريا الشمالية تنفي حتى اليوم وجود معسكرات الاعتقال السياسية تلك.
أوتو وارمبير، الطالب الأميركي الذي احتجزته كوريا الشمالية أخيرًا، كان قد حُكم عليه أيضًا بالسجن لمدة 15 عامًا في أحد معسكرات الاعتقال السياسي هناك، بعد إدانته بمحاولة سرقة ملصق من غرفته أثناء زيارة له في يناير/كانون الثاني العام الماضي.
لكنّه لم يقضِ كلّ تلك المدة، فقد تمكّنت الولايات المتّحدة من التفاوض لاستعادته في يوليو/تموز من هذا العام، وعندما وصل إلى منزله هناك، كان في حالة خمول، وتوفّي بعد ستّة أيام فقط من عودته.
تشارلز كان على وشك أن يلقى المصير ذاته هو أيضًا، فقد كان جائعًا للغاية أثناء فترة عمله في المعسكر، وأكل نباتًا سامًّا. وزيادة على سوء التغذية الحاد، تركته نوبة المرض والإسهال ضعيفًا إلى درجة أنه كان بالكاد يفتح عينيه.
يقول تشارلز: "كان بوسعي سماع صراخ حراس الحكومة: لماذا لا نرسل هذا الرجل إلى المنزل، إنه لا يستطيع حتى العمل؟ حينها قلت لنفسي: يا إلهي، لقد نجوت".
مستقبل قاتم
رغم أنّه تعافى أخيرًا، ظلّ مستقبل تشارلز قاتمًا داخل البلاد. كان طفلًا لعائلة من الطبقة "المتذبذبة". والداه لم يكونا معه، وهو مدان بمحاولة الهرب من كوريا الشمالية. لقد تغيّب كثيرًا أيضًا عن المدرسة بسبب عدم حصوله على منزل مستقر. ابن السادسة عشرة آنذاك كان يواجه احتمال الحياة في الشوارع مرة أخرى، واتّخذ واحدًا من القرارات القليلة المتاحة له: العمل في منجم للفحم.
كانت تلك مهمّة باهظة المخاطر في كوريا الشمالية، فأنفاق التعدين تلك تمّ تشييدها بواسطة مراهقين غير مهرة، وقد انهارت غير مرة.
الماكنة التي عمل عليها تشارلز كانت قديمة، وبسببها خسر الكثير من الأصدقاء في حوادث مروعة، كما يقول. لم يكن يتلقَّى المال حتّى نظير عمله، وبدلًا من ذلك، كان يحصل على وعاء فيه 30 غرامًا من الأرز يوميًّا.
"رأيت الكثير من الأشخاص يفقدون أياديهم، وأرجلهم، ويصابون بالشلل، ويتحطمون تحت الصخور. ورغم ذلك، كنت أرى متعة في التفاعل مع أصدقاء آخرين، خسرت الكثير منهم لاحقًا"، يقول تشارلز، معقّبًا: "لم أكن أريد بحياتي أن تنتهي على هذا النحو".
الحرية
في 2011، قرّر تشارلز أنّه لم يعد بإمكانه مواصلة وجوده المحفوف بالمخاطر في كوريا الشمالية. هرب من منجم الفحم، وتمكّن من السفر خلسة في القطارات، حتّى وصل إلى حدود الصين. هناك اتّبع مسار العديد من الكوريين الشماليين، وخاض النهر حتّى أصبح داخل حدود الصين.
لم تكشف الصحيفة البريطانية عن الموقع بدقّة، حتّى لا تتمكّن السلطات الكورية من تشديد إجراءاتها الأمنية، غير أنّ النهر الذي قطعه تشارلز كان خطيرًا لعمقه وسرعته، وقد كاد أن يغرقه في منتصف الطريق عندما انزلقت صخرة تحته".
لم يكن في جعبته آنذاك سوى الملابس التي كان يرتديها. خطّط للانتقال من بلدة إلى أخرى، لتسوّل الطعام أو سرقته. ولكن رعبه من أن يتم القبض عليه مرّة أخرى دفعه إلى السير حافي القدمين عبر منطقة في الغابة، وهناك ضاع لثلاثة أيام. مرّة أخرى كان على شفا الموت جوعًا.
حينما كان يهذي من نقص الطعام والماء، وجد من يقدم له المساعدة. أحد الرجال المحليين لمحه وهو على دراجته النارية مستلقيًا على جانب الطريق، وتوقّف لمد يد العون. أحضر تشارلز إلى منزله، وأطعمه، وقدّم له دواء لمعالجة البثور المؤلمة على قدميه.
يقول تشارلز: "في اليوم الثاني، وصلني الرجل الصيني بمبشر من كوريا الجنوبية. سألني الأخير أين أنت ذاهب، وهل أنت من كوريا الشمالية؟ كان حقًّا متحمسًا لإنقاذي".
لاحقًا، تمكّن المبشر من إيصاله إلى بيت والده في الصين، ولخوفهما من ترحيله مجدّدًا، تم تهريب تشارلز إلى الولايات المتّحدة بوصفه طفلًا طالب لجوء، وهناك تأكّد أنه لن يعود إلى كوريا الشمالية مرة أخرى.