شهداء الجزائر يعودون في ذكرى الاستقلال
لم تكن قصة الطاهر وطّار "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" مجرد قصة استمتع بها جمهور القراء، ورأى الجزائريون فيها مقطعاً من تاريخهم النضالي. لم تكن أيضاً مجرّد فرجة ماتعة حوّلها المخرج زياني الشريف عياد مسرحية عشقتها خشبة المسرح الجزائري والعربي، بل كانت نبوءة لافتةً لرجل مخضرم، مجاهد في ثورة التحرير، وأحد أعمدة الثقافة في الجزائر. تخيل وطّار الشهداء يعودون أحياء يرزقون، يُشاهدون بأمّ أعينهم مصير نضالهم وتضحياتهم، وكيف صارت أمور بلادهم، بعد أن ذهب الاستعمار وحلّت الدولة الوطنية. كانت قصةً تحمل معها جهاز تفحص الواقع المعيش بعيون ثاقبة، تستلهم الماضي النضالي المجيد للشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وتشحذ أسلحة نقدها تجاه الحاضر الذي يقوده رفاق النضال.
في عيد الاستقلال الـ58 حطّت في مطار هواري بومدين الدولي في العاصمة الجزائر طائرة على متنها جماجم 24 مقاوماً جزائرياً للاستعمار الفرنسي، كانت موجودة منذ أزيد من 170 عاماً في متحف الإنسان في باريس. عادوا إلى أرض وطنهم محمولين على أكتاف أحفادهم، في احتفاليةٍ مميزةٍ أريد لها أن تكون شحناً عاطفياً، حقّقت فيه الجزائر نصراً تاريخياً في معركة الذاكرة مع فرنسا الاستعمارية.
حالة الإجماع الوطني التي ارتفعت في الجزائر باسترجاع جماجم شهداء المقاومة هي حالة اعتزاز، لها رمزيتها الخاصة
في متحف الإنسان في باريس بقيت جماجم المقاومين أسيرة الاستعلاء الأوروبي. في شهادة بثها تلفزيون العربي عام 2017 عن قصة هذه الجماجم، يقول رئيس قسم الأنثروبولوجيا في المتحف، آلان فرومون، إن 18 ألف جمجمة من مختلف مناطق العالم موجودة في هذا المتحف، يعتبرها القانون الفرنسي من الممتلكات الفرنسية العامة، بما فيها جماجم الجزائريين الموجودة في المتحف منذ القرن التاسع عشر، وعددها 36 جمجمة، 12 منها لقادة في المقاومة الجزائرية ضد فرنسا. تعرّضت هذه الجماجم للتشريح والخضوع للدراسة في تاريخ الأشخاص، والبحث عن أصل الإنسان وعن التطور البشري. كان الباحث الأوروبي، والفرنسي خصوصاً، يعتقد بتفوق الإنسان الغربي على بقية البشر.
تعود الجماجم المسترجعة إلى عدد من الشهداء المقاومين الذين قادوا الثورات الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي منتصف القرن التاسع عشر، منهم محمد لمجد بن عبد المالك، المشهور بالشريف بوبغلة، قائد المقاومة الشعبية في منطقة جرجرة (القبائل)، والشيخ بوزيان قائد ثورة الزعاطشة (منطقة بسكرة في الجنوب الجزائري 1849) وموسى الدرقاوي مستشاره العسكري، وعيسى الحمادي، نائب الشريف بوبغلة، ومحمد بن علال بن مبارك، نائب الأمير عبد القادر.
في متحف الإنسان في باريس بقيت جماجم المقاومين أسيرة الاستعلاء الأوروبي
أُخذت هذه الجماجم باعتبارها غنائم حرب، يزخر بها متحف الإنسان في باريس، ويجعلها تحت تصرف الباحثين في تخصص علم دراسة العظام (البيوأركيلوجيا، كان قدرها أن تظل 170 عاماً عرضةً للتنكيل، كأي أجساد حيوانات محنطة، شاهدة على استعلاء أوروبي، أسّس للفكر الاستعماري، وجعل دولاً كثيرة عرضة للنهب والاحتلال.
لم يكن التمثيل بأجساد الجزائريين، وتعذيبهم، حالة استثنائية في تاريخ الاستعمار البغيض. كان ترهيب الجزائريين واقعاً يومياً عانى منه الشعب الجزائري أكثر من 130 عاماً. يقول العقيد فرانسوا لوسيان دي مونتانياك في مذكراته: "لكي أطرد الأفكار التي كانت تحاصرني، والأرق الذي كان ينتابني، كنت آمر الجنود بقطع الرؤوس، ليست رؤوس نبات الخرشوف (يسمى أيضاً الأرضي الشوكي)، بل رؤوس الرجال". يجمع الأطباء التابعون للجيش الفرنسي بعد ذلك تلك الجماجم لنقلها إلى باريس. يقول آلان فرومون إن الجيش الفرنسي كان يترك الجثث مقطوعة الرأس مرمية، ولا يجمعها، فيقوم الأطباء بترحيلها إلى باريس بغرض التشريح والبحث.
اكتشف الأنثروبولوجي الجزائري المقيم في فرنسا، فريد بالقاضي، في عام 2011، قصة هذه الجماجم، سلّط عليها الأضواء، وجعل قصتها تخرج إلى العلن. وفي 2016 تطوع الأستاذ الجامعي والمؤرخ، إبراهيم سنوسي، للغوص أكثر في البحث عن جماجم الجزائريين القابعة في الطابق السفلي لمتحف الإنسان في باريس، ولم تكن طريقه معبدة. تنادى المثقفون بعدها، والمهتمون من الجزائريين والفرنسيين بالموضوع. قدّمت عرائض للحكومة الفرنسية تُطالب بالإفراج عن هذه الجماجم. وكانت دون ذلك عراقيل جمّة، فالحكومة الفرنسية ظلت تناور بوجود عراقيل قانونية تحول دون إتمام العملية. دخل الموضوع حلبة الديبلوماسية بين البلدين، وبين مدّ وجزر دام سنوات، أفرجت السلطات الفرنسية عن الجماجم أخيراً، ووصفت الرئاسة الفرنسية ذلك بأنه "لفتة من أجل التئام جراح التاريخ". وفي ذلك القول استغلال لحظي للقضية، كأن في الأمر مزية، أو هدية من رئيس الجمهورية الفرنسية (إيمانويل ماكرون) للجزائر.
أُخذت هذه الجماجم باعتبارها غنائم حرب، يزخر بها متحف الإنسان في باريس، ويجعلها تحت تصرف الباحثين في تخصص علم دراسة العظام
تعود جماجم شهداء المقاومة إلى تراب الوطن لتدفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية في الجزائر العاصمة، ترتاح أخيراً في رقدتها الأخيرة، تعود والجزائر تعيش مرحلةً انتقاليةً عصيبة في تاريخها الحديث، تعود في وقت تسترجع فيه بعض الأصوات صدى فُرقةٍ يحاول بعضهم النفخ فيها، لتأجيج صراعاتٍ جهويةٍ وعرقيةٍ، في بلد وحّدتها دماء الشهداء التي سقت أرضها الطاهرة أكثر من 130 عاماً.
دم الثوار تعرفه فرنسا، لم تكن لتفرّق فيه بين مكونات المجتمع الجزائري من عربي وبربري، فالكل عندها سواء. وإذا كانت هناك من رسالةٍ في استرجاع رفات الشهداء، فهي أنهم كانوا دماً واحداً عربياً وأمازيغياً، لم تفرّقهم فرنسا، إلا أن يد العبث تحاول أن تلهو بمصير الأمة بعد وحدتها. يقول المناضل والسياسي فرحات عباس (أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة 1958 - 1961)، في كتابه "غدا سيطلع النهار"، إن طفلاً صغيراً ذكّره ببداهة وحدة الشعب الجزائري "في 1922، كنت أؤدي الخدمة العسكرية في مدينة جيجل، وألعب كرة القدم في الفريق المحلي. وفي يوم من الأيام، تنقلنا إلى قسنطينة للعب مباراة هناك، ونحن في طريقنا اقترب منا راعٍ صغير، كان في 12 من عمره، بادره لاعب فرنسي كان معنا في الفريق، بسؤال: هل أنت عربي أم قبائلي؟ ودون أي تردد، قال الطفل: أنا مسلم). قدّم هذا الطفل، يضيف فرحات عباس، "الدليل القاطع على حقيقة الواقع الجزائري الذي يمنح بلادنا ميزتها الخاصة والثابتة".
دم الثوار تعرفه فرنسا، لم تكن لتفرّق فيه بين مكونات المجتمع الجزائري من عربي وبربري، فالكل عندها سواء.
حالة الإجماع الوطني التي ارتفعت في الجزائر باسترجاع جماجم شهداء المقاومة هي حالة اعتزاز، لها رمزيتها الخاصة. يبقى أن يعي الجزائريون جيداً أن تحويل هذا الإجماع إلى مرتكز لانطلاق فورة التشييد الحقيقي لدولة الحق والقانون، وتحقيق التطور والازدهار، هو ما ينتظره من الجزائريين الشهداءُ الذين عادوا هذا الأسبوع. عند محاكمة العالم المجاهد الشيخ الحداد، قائد إحدى الثورات الشعبية ضد فرنسا، رفض الجلوس على الكرسي، وفضل الجلوس على الأرض، فالأرض أرضه، وكراسي الاستعمار تزول.