إنّه زمن ترتسم فيه الحدود بين المناطق على أسس وأعراف وتسويات وتواطؤات ضمنيّة، لها مسوغاتها السياسية والاجتماعية والثقافية. لا بل إنَّ التواطؤات تمنح الجماعات الطائفية والإثنية ذرائع ومكاسب لم تكن في الحسبان أيام الحرب الأهلية. تعبُر بين المناطق، لتطالعك معالم الفرز المُستحدَثة، معالم استساغتها الجماعات في إطار ترسيم حدودها الاجتماعية.
لا تقتصر عملية التقسيم على دوافع سياسية فقط. باستطاعتك مقاربة تراثنا الشفهي المتمثِّل في الأمثال الشعبية لتنقّب عن دلالات الفرز بين الطوائف وقيمها وشيمها. كذلك، يمكنك أن تبحث في طبيعة قوانين الأحوال الشخصية، أو أن تطرح مسألة الاختلاط والزواج بين الطوائف. يمكنك أن تعرّج على ما استحدثته ذهنية التقسيم بعد الحرب من أعراف في مضمار بيع العقارات بين المسلمين والمسيحيين. هنا، من المُمكن ضبط معالم الفدرالية الاجتماعية، لكن لا مجال للاستطراد وتغطية كافة مستويات عملية التقسيم بين الجماعات.
ما زالت بعض الأبنية التي شكّلت خطوطاً للتماس، شاهدة على ما خلّفته الحرب. لم تكن الحرب كافية لتشكيل حدود المناطق، فزمن السلم استحدث في الاجتماع اللبناني قواعد جديدة في رسم خطوط تماس بين الجماعات الطائفية، والتي لم تكن تتحارب من قبل. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يبدو شارع قصقص الفاصل بين بيروتيْن: بيروت الغربية وبيروت الشرقية، قد أخذ يتحوَّل إلى خط تماس فاصل بين السُنّة (طريق الجديدة) والشيعة المتوزّعين على أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت. أو خذ أيضاً، ظهور المحاور بين جموع المسلمين في طرابلس.
تُشكّل أعمدة الإنارة اليوم حدود المناطق لما تحمله من صور مختلفة، صور القادة والزعماء السياسيين. تنتصب الأعمدة كفزّاعات الحقول، تطرد من أرضها أسراب الطيور العابرة لحدودها. لا تقتصر الصور على الزعماء فقط، لا بل هناك صور الشهداء التي ترسم حدود المناطق، وتخفي خلفها بيئتها الحاضنة وجماعات تتوارى خلف أكوام الصور. تضفي اليافطات السياسية معالم أخرى على مشهد التقسيم.
كذلك أعلام الأحزاب.. كل هذا جهاز توجيه حديث GPS يُرشدك إلى الطريق الاجتماعي: "أنت على الطريق الصحيح.. استدر شمالاً.. أنت في رحاب الشيعة، أو على أراضي السنّة.. أو أنت داخل أجمة من المكاتب الحزبية المتنوعة للمسيحيين. على يمينك، مكتب حزب "القوّات اللبنانيّة"، ومقابله مركز "التيار الوطني الحرّ". شارع في الجانب الآخر، يتقاسمه تيار المردة وأنصار رئيس "حزب الوعد" الراحل إيلي حبيقة. تقسيم المناطق على قاعدة "نحن هنا... من أنتم"؟
يبدو لك أن المجتمع اللبناني منفتح على بعضه البعض، ومن السهل التنقُّل بين المناطق من دون أي ضريبة. لكن مهلاً... توقّف لبرهة هنا. هنا أمام بعض اللوحات الإعلانية المستخدمة لترويج المنتوجات التجارية. لماذا يتم طلاء أو تمزيق جسد امرأة الإعلان؟ هل يوجد في هذه المنطقة ناشطون من المجتمع المدني ومناصرون لحقوق المرأة قد أزعجهم استغلال جسدها؟ لا، أنت في منطقة المسلمين. نعم، منطقة قد يستحيل أن تجد فيها محلاً واحداً لبيع الكحول.
زجاجة بيرة وجسد امرأة في إعلان تجاري على طرقات عامة، ممنوع. "ليس داخل حدودنا" داخل حدود تعاليمنا.. هكذا تعبّر الجماعة عن نفسها، ويساندها في ذلك أدوات الأحزاب على أرضها. ناهيك عن مساندة أدوات السلطة ومؤسساتها الشرعية أحياناً. إنّها الفدرالية الاجتماعية. اخفِض "منقوشتك" الآن، لقد وصلنا حيث الناس تمارس شعائرها في الشوارع لا في الأديرة والمنازل. إنّها مدينة صائمة.
يتأزم الوضع السياسي بين مكوّنات السلطة اللبنانية، فتترجمه الجماعات فوراّ على الأرض. إنّها حدود الدولاب المشتعل. لم نكتفِ بتصدير الحرف من شواطئ فينيقيا إلى العالم، ها نحن نصدّر تخلّفنا كتطبيق لهاتف ذكي تستخدمه لمعرفة الطرقات السالكة أثناء غضب الجماعات. الشيعة خارج الحكومة تُعادل طريق المطار المقطوع. ما زال الشيعة خارج الحكومة، الوسط التجاري مهدد باعتصام مفتوح. السُنّة مهددون، إذاً طريق قصقص ليست سالكة. السُنّة غاضبون، فطريق الجنوب عند مدخل الناعمة غير متوفّر حالياً. جرّب مرّة أخرى، عندما ينام المارد السنّي.
لا يكتفي الاجتماع اللبناني بترسيم حدود الجماعات والمناطق بناء على ما ذكرناه، بل يذهب إلى تفخيخ المناطق بناءً على معالم الهوية الطائفية. "لا تذهب إلى الضاحية"، جملة تتردّد على مسامعك من أيّ قريب يحرص على سلامتك. الانفجار ليس عملاً أمنياً فحسب، إنّه أداة جديدة لترسيم حدود المناطق. انفجار تلوَ الآخر، وتصبح منطقة محميّة ونائية عن محيطها. تصبح حواجز الأمر الواقع، مُعزَّزةً بسلطات العنف الشرعي، سياجاً للجماعة المستهدفة. لا تنحصر تداعيات الانفجار في الضحايا والدمار.
يهرع الأحياء إلى الشاشات والمنابر لتشكيل حدودهم بخطاب طائفي يميّز بينهم وبين الآخرين. يبدأ الخطاب بتجديد الولاء للزعيم وتأكيد الانتماء للجماعة. سرعان ما ينسحب السعار الطائفي إلى مواقع يُفترض أنّها للتواصل الاجتماعي. فتبرز المتاريس وتصبح مواقع للتفكك الاجتماعي. كلّه ضمن خطاب "الأنا والآخر". الآخر الذي يرسم حدود مناطقه "بالبقلاوة". مهلاً خفّف سيرَك... حاجز بقلاوة للشماتة.. بقلاوة الفدرالية الاجتماعية.
لبنان بلد التنوّع، يرزح تحت وطأة التنوّع نفسه.. تنوّع يُغني الفدرالية الاجتماعية، ويقيم المتاريس بين أبناء الوطن الواحد. هكذا تصبح السياسة أحد الأسباب التي تزيد من شرذمة المجتمع، في حين أن الاجتماع برمّته يطالعك على الدوام باستعداده لفدرالية ضمن حدود الدولة ذاتها. أطفئ المحرك، واركن سيارتك لنسترح في مقهى ما.. أي مقهى؟.. اسمع، عليك أن تعرف، أنّ لكل طائفة مقاهيها ومطاعمها وأماكن الترفيه الخاصة بها والملائمة لقيم ومعايير روّادها. لكل طائفة مستشفى، مدرسة، جامعة، محطة وقود.. محطة إذاعية ومحطة تلفزيونية.. جريدة...
مهلاً أدِر المحرِّك، استدر.. من هنا طريق المطار، درّ.
لا تقتصر عملية التقسيم على دوافع سياسية فقط. باستطاعتك مقاربة تراثنا الشفهي المتمثِّل في الأمثال الشعبية لتنقّب عن دلالات الفرز بين الطوائف وقيمها وشيمها. كذلك، يمكنك أن تبحث في طبيعة قوانين الأحوال الشخصية، أو أن تطرح مسألة الاختلاط والزواج بين الطوائف. يمكنك أن تعرّج على ما استحدثته ذهنية التقسيم بعد الحرب من أعراف في مضمار بيع العقارات بين المسلمين والمسيحيين. هنا، من المُمكن ضبط معالم الفدرالية الاجتماعية، لكن لا مجال للاستطراد وتغطية كافة مستويات عملية التقسيم بين الجماعات.
ما زالت بعض الأبنية التي شكّلت خطوطاً للتماس، شاهدة على ما خلّفته الحرب. لم تكن الحرب كافية لتشكيل حدود المناطق، فزمن السلم استحدث في الاجتماع اللبناني قواعد جديدة في رسم خطوط تماس بين الجماعات الطائفية، والتي لم تكن تتحارب من قبل. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يبدو شارع قصقص الفاصل بين بيروتيْن: بيروت الغربية وبيروت الشرقية، قد أخذ يتحوَّل إلى خط تماس فاصل بين السُنّة (طريق الجديدة) والشيعة المتوزّعين على أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت. أو خذ أيضاً، ظهور المحاور بين جموع المسلمين في طرابلس.
تُشكّل أعمدة الإنارة اليوم حدود المناطق لما تحمله من صور مختلفة، صور القادة والزعماء السياسيين. تنتصب الأعمدة كفزّاعات الحقول، تطرد من أرضها أسراب الطيور العابرة لحدودها. لا تقتصر الصور على الزعماء فقط، لا بل هناك صور الشهداء التي ترسم حدود المناطق، وتخفي خلفها بيئتها الحاضنة وجماعات تتوارى خلف أكوام الصور. تضفي اليافطات السياسية معالم أخرى على مشهد التقسيم.
كذلك أعلام الأحزاب.. كل هذا جهاز توجيه حديث GPS يُرشدك إلى الطريق الاجتماعي: "أنت على الطريق الصحيح.. استدر شمالاً.. أنت في رحاب الشيعة، أو على أراضي السنّة.. أو أنت داخل أجمة من المكاتب الحزبية المتنوعة للمسيحيين. على يمينك، مكتب حزب "القوّات اللبنانيّة"، ومقابله مركز "التيار الوطني الحرّ". شارع في الجانب الآخر، يتقاسمه تيار المردة وأنصار رئيس "حزب الوعد" الراحل إيلي حبيقة. تقسيم المناطق على قاعدة "نحن هنا... من أنتم"؟
يبدو لك أن المجتمع اللبناني منفتح على بعضه البعض، ومن السهل التنقُّل بين المناطق من دون أي ضريبة. لكن مهلاً... توقّف لبرهة هنا. هنا أمام بعض اللوحات الإعلانية المستخدمة لترويج المنتوجات التجارية. لماذا يتم طلاء أو تمزيق جسد امرأة الإعلان؟ هل يوجد في هذه المنطقة ناشطون من المجتمع المدني ومناصرون لحقوق المرأة قد أزعجهم استغلال جسدها؟ لا، أنت في منطقة المسلمين. نعم، منطقة قد يستحيل أن تجد فيها محلاً واحداً لبيع الكحول.
زجاجة بيرة وجسد امرأة في إعلان تجاري على طرقات عامة، ممنوع. "ليس داخل حدودنا" داخل حدود تعاليمنا.. هكذا تعبّر الجماعة عن نفسها، ويساندها في ذلك أدوات الأحزاب على أرضها. ناهيك عن مساندة أدوات السلطة ومؤسساتها الشرعية أحياناً. إنّها الفدرالية الاجتماعية. اخفِض "منقوشتك" الآن، لقد وصلنا حيث الناس تمارس شعائرها في الشوارع لا في الأديرة والمنازل. إنّها مدينة صائمة.
يتأزم الوضع السياسي بين مكوّنات السلطة اللبنانية، فتترجمه الجماعات فوراّ على الأرض. إنّها حدود الدولاب المشتعل. لم نكتفِ بتصدير الحرف من شواطئ فينيقيا إلى العالم، ها نحن نصدّر تخلّفنا كتطبيق لهاتف ذكي تستخدمه لمعرفة الطرقات السالكة أثناء غضب الجماعات. الشيعة خارج الحكومة تُعادل طريق المطار المقطوع. ما زال الشيعة خارج الحكومة، الوسط التجاري مهدد باعتصام مفتوح. السُنّة مهددون، إذاً طريق قصقص ليست سالكة. السُنّة غاضبون، فطريق الجنوب عند مدخل الناعمة غير متوفّر حالياً. جرّب مرّة أخرى، عندما ينام المارد السنّي.
لا يكتفي الاجتماع اللبناني بترسيم حدود الجماعات والمناطق بناء على ما ذكرناه، بل يذهب إلى تفخيخ المناطق بناءً على معالم الهوية الطائفية. "لا تذهب إلى الضاحية"، جملة تتردّد على مسامعك من أيّ قريب يحرص على سلامتك. الانفجار ليس عملاً أمنياً فحسب، إنّه أداة جديدة لترسيم حدود المناطق. انفجار تلوَ الآخر، وتصبح منطقة محميّة ونائية عن محيطها. تصبح حواجز الأمر الواقع، مُعزَّزةً بسلطات العنف الشرعي، سياجاً للجماعة المستهدفة. لا تنحصر تداعيات الانفجار في الضحايا والدمار.
يهرع الأحياء إلى الشاشات والمنابر لتشكيل حدودهم بخطاب طائفي يميّز بينهم وبين الآخرين. يبدأ الخطاب بتجديد الولاء للزعيم وتأكيد الانتماء للجماعة. سرعان ما ينسحب السعار الطائفي إلى مواقع يُفترض أنّها للتواصل الاجتماعي. فتبرز المتاريس وتصبح مواقع للتفكك الاجتماعي. كلّه ضمن خطاب "الأنا والآخر". الآخر الذي يرسم حدود مناطقه "بالبقلاوة". مهلاً خفّف سيرَك... حاجز بقلاوة للشماتة.. بقلاوة الفدرالية الاجتماعية.
لبنان بلد التنوّع، يرزح تحت وطأة التنوّع نفسه.. تنوّع يُغني الفدرالية الاجتماعية، ويقيم المتاريس بين أبناء الوطن الواحد. هكذا تصبح السياسة أحد الأسباب التي تزيد من شرذمة المجتمع، في حين أن الاجتماع برمّته يطالعك على الدوام باستعداده لفدرالية ضمن حدود الدولة ذاتها. أطفئ المحرك، واركن سيارتك لنسترح في مقهى ما.. أي مقهى؟.. اسمع، عليك أن تعرف، أنّ لكل طائفة مقاهيها ومطاعمها وأماكن الترفيه الخاصة بها والملائمة لقيم ومعايير روّادها. لكل طائفة مستشفى، مدرسة، جامعة، محطة وقود.. محطة إذاعية ومحطة تلفزيونية.. جريدة...
مهلاً أدِر المحرِّك، استدر.. من هنا طريق المطار، درّ.