تبقى صالات العرض المكان الصحيح والمناسب والتقليدي لعرض الأفلام. عبارة أثبتت قوّتها منذ عقود طويلة. لكن هل لا تزال صالحة؟ هل هناك إمكانية لتحقيقها مزيد من ثباتٍ ورسوخ؟ أم أنّ بقاء صالات العرض صار محل شكّ كبير، ومسألة وقتٍ لا أكثر، في ظلّ توسّع منصّات البثّ وانتشارها، واقترانها أخيراً بانتشار كورونا، والموات الذي أحدثه الوباء للصناعة؟
منذ اختراعها، لم تتوقّف صرخات صُنّاع السينما عن أنّها تواجه خطراً مُحدقاً قد يُقوّض كيانها، أو يؤدّي إلى اندثارها. في أواخر عشرينيات القرن الماضي، شعر السينمائيون، وأوّلهم تشارلي شابلن، بخطورة دخول الصوت، وتحوّل السينما إلى ناطقة. الأمر نفسه تقريباً ينسحب على مرحلة الانتقال إلى الصورة الملوّنة. وعشية نهاية الخمسينيات الماضية، مع انتشار التلفزيون بشكل كبير، ازدادت المخاوف من تراجع عدد المُشاهدين في الصالات، وإغلاقها.
حدث هذا، وإنْ بوتيرة أقلّ، مع انتشار تقنيات تكنولوجية حديثة، كالفيديو وأشرطة "في. إتش. إس." والـ"كايبل" والفضائيات والأقراص الرقمية المضغوطة، وأخيراً الأجهزة والتلفزيونات الذكية، المقترنة بثورة الإنترنت. لكن كلّ ما سبق لم يمنع الجمهور من الذهاب إلى الصالات، ولم يشكّل خطراً أو تهديداً يُمكن التنبؤ بهما، على غرار ما حدث للـ"فيديو كاسيت"، ولأقراص "دي في دي" و"بلوراي" وغيرها، وهي إلى زوالٍ قريب. الواضح، في ما يتعلق بصناعة السينما، أنّها لن تزول ولن تتوقّف، لأسباب اقتصادية أساساً، قبل أن تكون فنية أو سياسية أو اجتماعية.
مع ذلك، المخاوف موجودة، والأسئلة مطروحة أكثر من ذي قبل، وآخرها تساؤلات تتفاوت الآراء والإحصائيات بشأنها: هل ستُغيّر منصّات البث، كـ"نتفليكس" و"أمازون" و"آبل" و"موبي" وغيرها، مستقبل السينما؟ هل تُشكّل تهديداً لها؟ هل تؤدّي إلى عزوف الجمهور عن الذهاب إلى صالات العرض، وبالتالي القضاء تماماً على الصالات السينمائية، وعلى دورها منذ اختراعها إلى الآن؟ الإلحاح في طرح التساؤلات والتنبّه إلى الخطر ازدادت وتيرتهما مع الإعلانات المتتالية عن التوسّع في حجم المنصّات وانتشارها، وزيادة عدد المشتركين فيها، ومقارنة عائداتها بتلك التي يُحقّقها شبّاك التذاكر. كذلك إنّ حجم الإنتاج وكمّه وتنوّعه، وفرادته أحياناً، مُقارنة بأعوام قليلة ماضية، فاقمت من خطورة الأوضاع، وتصاعد أصوات محذّرة، خصوصاً مع التفشّي غير المتوقَّع لكورونا والحجر المنزلي في معظم أنحاء العالم.
سابقاً، لم يخشَ أصحاب صالات العرض والمجمّعات السينمائية الكبرى من انتشار منصّات البثّ، قائلين إنّ لدى الجميع مطابخ في منازلهم، ومع ذلك لم يمنعهم هذا من الذهاب إلى المطاعم كتقليدٍ راسخ وضروري أحياناً. لكنْ ـ بعد نشر دراساتٍ أجريت بين عامي 2018 و2020، تُظهِر تحوّلاً ملحوظاً في سلوك المُشاهدين الذين يُفضّلون البثّ المنزلي، أدركوا خطورة الأمر وشراسة المنافسة. لذا، قدّمت بعض سلاسل الصالات السينمائية اشتراكاتٍ شهرية أو سنوية، ذات مزايا مغرية تشبه، من نواحٍ كثيرة، منصّات البثّ: اشتراك لمدة 12 شهراً، أو 3 أفلام أو أكثر أسبوعياً، من دون التقيّد بسينما محدّدة، ما دامت السلسلة نفسها تملكهاـ إلى مُغريات أخرى، كحرية اختيار المقعد عبر تطبيق معيّن، وحسومات في أوقاتٍ معيّنة من العام، ووجبة مجانية في الأعياد، أو الاحتفال بعيد ميلاد المُشترك في تلك الخدمة.
التنافس على تقديم أفضل المغريات للمُشاهدين بين السلاسل نفسها من ناحية، وبينها وبين المنصّات من ناحية أخرى، لم تُرصد تبعاته بشكلٍ كاملٍ ودقيق بسبب كورونا، إذْ لا تزال صالات سينمائية مختلفة في الولايات المتحدة، السبّاقة في تقديم تلك المزايا، مُغلقة. حتّى تلك التي أُعيد فتحها خارج الولايات المتحدة لم تعمل بطاقتها القصوى بسبب المحاذير، وتردّد الجمهور وخشيته. لذا، طُرح مجدّداً السؤال الآتي: هل تفلح المغريات كلّها أمام الاسترخاء على الأريكة؟
لا تنبع الصعوبة من الاسترخاء أو من عدمه، بل من عوامل أخرى كثيرة، زاد تفشّي الوباء من تعقيداتها. سابقاً، كان المُشاهد يُغادر الصالة، لكنّ عرض الفيلم يستمرّ من دونه. المتاح الآن عكس هذا، وبسهولة كبيرة، ومن دون أيّ ندم للمُشاهد على خسارته وقتاً وجهداً، أو ضياع ثمن التذكرة، أو إفساد سهرة. فالبدائل المتوافرة كثيرة، "إلى حدّ التخمة". فمبدأ المنصّات يكمن في الدفع مقابل الترفيه الانتقائيّ غير المحدود تقريباً، على نقيض الذهاب إلى صالة السينما، بالإضافة إلى مزايا أخرى، كالمُشاهدة في أيّ وقت، وإيقاف البثّ والتحكّم بسرعته، ودرجة الصورة والألوان، ومُشاهدة العمل أكثر من مرّة، كذلك ترجمة بعض المنصّات وفتحها باب الانتشار لأعمالٍ سينمائية عربية على نطاق عالميّ أوسع، وبلغات عدّة، فرغم غلبة الدراما والكوميديا عليه، وصغر حجمه الدوليّ على شاشتها، مقارنة بالكَمّ الكبير المتوافر للمشتركين في المنطقة العربية، لا يخلو المحتوى العربي لـ"نتفلكيس" مما هو فنيّ أيضاً.
الجيّد حتى اللحظة أنّ هناك عقوداً ومشاريع كثيرة متّفقاً عليها لإثراء المحتوى بمستوياته كلّها، ربما ظهرت علناً بعد انتهاء أزمة كورونا. مزايا البثّ كثيرة، ينعم بها الذين لا يملكون تكلفة الذهاب المنتظم إلى السينما، أو الذين يعيشون على أطراف المدن، وفي أمكنة لا صالات سينمائية فيها أو قريبة منها، يعرض بعضها أفلاماً مُحبّذة لديهم. قبل انتشار كورونا، أفادت دراسات بأنّ من يواظب على الذهاب إلى الصالات، يشاهد كثيراً ما تعرضه المنصّات أيضاً. فالأهمّ كامنٌ في حبّ السينما لدى أناسٍ كثيرين. لكنْ، ما مدى اتّساع تلك الشريحة وتأثيرها أمام ارتفاع عدد المشتركين في المنصّات، وقلّة روّاد السينما؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، ليس بسبب كورونا، بل بسبب الانتشار السريع للإنترنت، ووصوله إلى بقاعٍ لم يصل إليها قبلاً، بالإضافة إلى تطوّر الخدمة، ورخص الاشتراكات مقارنة بالسابق، والسعي إلى توفيره مجاناً في بلدان فقيرة أو محرومة تلك الخدمة،كذلك، هناك عدم توافر الوقت الكافي بعد لبحث تجارب الإنتاج وتقييمها، ولامتلاك العرض الحصري والترميم الذي دشّنته المنصّات بنيّة تفرّد مكتباتها الخاصة وتميّزها.
لكن أيعني هذا أنّ كورونا والحجر المنزلي حسما الأمر بدرجة كبيرة لصالح المنصّات مقابل صالات العرض؟ يصعب تخمين هذا. الواضح أنّ عودة الصالات إلى عهدها السابق سيستغرق وقتاً كثيراً. الأمر نفسه ينسحب على تخلّي الجمهور عن عادة المُشاهدة المنزلية أو عبر أجهزة ذكية، والعودة تدريجاً إلى ما قبل كورونا، من دون الخوف من الإصابة به، مع التنبّه إلى ضرورة توفير إنتاجات ضخمة يتشوّق إليها المشاهدون، تلك التي تدفعهم إلى الصالات.
رغم ما سبق، وإنْ بدا الوضع أنّه لصالح المنصّات، فلا يزال أمام تلك الأخيرة تحدّيات وعقبات كثيراً، كالميزات التنافسية التي أوجدتها، المتمثّلة بتنوّع محتوى كلّ منها وثرائه وفرادته، ما أدّى، من دون دراية، إلى صعوبة أو ربما استحالة اشتراك المُشاهد العادي في أكثر من خدمة بثّ أو منصّة في الوقت نفسه، لأسبابٍ عدّة، أوّلها التكلفة المادية، واستحالة توافر شروط عرض بعينها لإنتاجات خاصة، تتطلّب مستوى معيّناً للصوت وشاشات كبيرة وتقنيات ثلاثية الأبعاد ومقاعد متحرّكة... إلخ، ما يصعب توفيره في ظلّ المنصّات.
بالعودة إلى الصناعة والتهديدات التي تواجهها، هل يمكن وصفها بأنّها محض مخاوف، سيتمّ تجاوزها مع الوقت، كتلك التي بدأت وواكبت الصناعة منذ اختراع السينما؟ يصعب تناول الأمر بتلك السهولة، ولا سيما أنّ المخاوف من توغّل المنصات لم يعد قاصراً على تغيير عادات المُشاهدة، أو ارتفاع عدد الاشتراكات، أو تراجع عائدات شبّاك التذاكر، إذ امتدّ الأمر، في الأعوام الأخيرة تحديداً إلى ضرب الصناعة، أي الإنتاج السينمائي. ففي عام 2012، أدركت المنصّات أهمية قوّة مكتباتها وفرادتها وتنوّعها، ما دفعها إلى خوض تجارب إنتاجية، تكلّلت بنجاحات كبيرة، وكاسحة أحياناً، وجاذبة لنجوم لامعين، ومخرجين مرموقين، وحاصلة على جوائز وثناء نقدي على جودة اختيار الكثير منها، وفنّيته وحُسنه.
أخيراً بدأت المنصّات تخوض تجارب إنتاجية في قارات وبلدان عدّة بلغاتها، وعرضها لاحقاً خارج حدود تلك البلدان، أو ضمن نطاق القارّة. كذلك فإنّها تبنّت تجارب فنية كثيرة ومواهب ومخرجين ذوي توجّهات فنية، مُذلّلة صعوبات الإنتاج والتوزيع والعرض والترجمة أمامهم. لكنّ التأثير السلبي الأكبر يمسّ أساساً المنتجين المحليين الذين لم يعد بإمكانهم المنافسة والاستمرار في الأسواق المحلية، ليس فقط لضعف عائدات شبّاك التذاكر واستحالة الاعتماد عليه كما في السابق، بل لاستحالة منافستهم حجم الإنتاج السخيّ للمنصّات التي تزاحمهم في الأسواق المحلية، وربما سيطرت عليها تماماً في فترة وجيزة، إذا أُخذ بالاعتبار انتفاء أو تقلّص الدعم والمساعدة من الحكومات وصناديق التمويل والإنتاج.
ما سبق دقّ ناقوس الخطر من تغوّل المنصّات إنتاجيّاً، ودفع إلى فرض قوانين عرض خاصة مغايرة للمتعارف عليه. كان التكهّن بشراء "نتفليكس"، قبل كورونا، مجموعة صالات، بدءاً من الولايات المتحدة، لعرض أفلامها الحصرية بها. فهل هذا لأنّها أجبرت قبلاً على عرض حصري لأفلامٍ عدّة في صالاتٍ أميركية محدودة، قبل بثها على منصّتها، كي لا تُستبعد من المشاركة في المنافسة على جوائز "أوسكار"؟ كجهة إنتاجية، هي مُلزمة بعرضٍ لأسبوعٍ واحد (على الأقلّ) في نيويورك ولوس أنجليس. إذاً، لماذا شراء صالات عرض وفرضها قوانين عرض خاصة بها؟ هل ستتّسع رقعة العرض الحصري مستقبلاً مع التوسّع في شراء الصالات، أو سيتبدّل كلّ شيء بسبب كورونا؟ لا شيء واضح إلى الآن. لكنّ الجليّ أنّ "أمازون" آثرت عدم الدخول في معارك مع الصالات، مُتيحةً لأفلامها عروضاً فيها بعكس "نتفليكس"، الراغبة في فرض قوانينها الخاصة. ربما لم يحن دور "أمازون" بعد، أو لعلّها تنتظر ما ستسفر عنه معركة "نتفليكس" مع الصالات وخططها الاستحواذية، ما بعد كورونا.