الذاكرة السينمائية طازجة ومؤهّلة لتعاين أساليب السرد، وتقارن عمل الكاميرا، وتستنتج الدلالات، لأنّ معظم أفلام العالم، القديمة والجديدة، باتت متوفرة على شاشة شخصية الوقت كلّه. هذا يُتيح المُشاهدة والانتقاء، وإعادة المُشاهدة. النتيجة أنّه في زمن "نتفليكس"، لم يعد هناك مبرّر لبطالة الناقد المُنتج. صار بإمكانه معاودة المُشاهدة لتسجيل ملاحظاتٍ عميقة، تتجاوز سطحية الخواطر والانطباعات.
لن يشعر الناقد بالخواء، لأنّ هناك بدائل فنية. سيكون بإمكانه أيضاً كشف المخرجين الذين يسرقون المَشاهد من أفلام الآخرين، لأنّ وفرة الأفلام تسمح باكتشاف التلاص بسهولة. هناك فرق شاسع بين مُشاهدة أفلام مخرج كبير في أوقات متباعدة، تمتدّ أعواماً، ومُشاهدتها كلّها في أيام. هكذا، بدلاً من أن تتقادم المُشاهدة فتضعف الذاكرة، تُتاح الفرصة للتحديق في الأفلام في زمن قريب. عندها، يُمكن الوقوف على أوجه التشابه في الموضوع والأسلوب. التشابه الذي يُعتَبر خيطاً ناظماً، يُحوّل عمل المخرج من شذرات فيلمية إلى عمل متكامل، يحمل بصمة فنية تميّزه عن الآخرين. مثلاً: كان الغراب مُحنّطاً في "سايكو" (1960)، لألفرد هيتشكوك، قبل أنْ تهيمن الغربان على "العصافير" (1963).
من مزايا "نتفليكس" نهاية بطالة النقّاد، خصوصاً في زمن الحجر، إذْ كثرت المقالات التي تتناول الأفلام والمسلسلات المعروضة على شاشتها. تبدأ المقالة غالباً بذكر اسم المنصّة، ومعه ملاحظة "حسب الطلب". شخصياً، أعتبر مُشاهدة فيلم جديد على شاشة حاسوب أمراً مُضرّاً بالفرجة والكتابة النقدية. لكنْ، بعد توقّف المهرجانات وإغلاق القاعات السينمائية، اشتركتُ في "نتفليكس"، فأمضيت أشهر الحجر في السيارة، رفقة حاسوب فيه بطارية تضمن لي طاقة للمُشاهدة في 7 ساعات متواصلة.
بدلاً من أن تتقادم المُشاهدة فتضعف الذاكرة، تُتاح الفرصة للتحديق في الأفلام في زمن قريب
"نتفليكس" منصّة تُقدّم مادة فيلمية، فيها معارف ومعلومات، وسرد بإيقاع سريع. في نصف ساعة، يصل البطل إلى نقطة اللاعودة. مع إيقاع كهذا، لن يستطيع المتفرّج إيقاف الفيلم ليطلّ على "لايكات" مواقع التواصل الاجتماعي. على الشاشة، أفلامٌ دسمة بُنيت على سيناريوهات ذات منسوب تواصلي عالي القيمة. مَشاهد غير قابلة للتلخيص بفضل غنى التفاصيل. في المَشاهد أجوبة واضحة عن الأسئلة الـ5: من الفاعل؟ أين يفعل؟ متى يفعل؟ كيف يفعل؟ والمهم: لماذا؟ ما ينقص في الصورة تُكمِله الحوارات الغنية، والمؤثّرات الصوتية. هذا يُعمِّق إحساس المتفرّج بواقعية ما يشاهده.
سرّع وباء كورونا رقمنة العالم. ارتفع عدد المشتركين في "نتفليكس"، في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020، من 167 مليوناً إلى نحو 183 مليوناً. زاد عدد المنخرطين 15.8 مليوناً دفعة واحدة. ستؤثّر الرقمنة على المجتمعات في مجالات عدّة، كالتسوّق والعمل عن بعد. هذا يوفّر للأفراد مزيداً من وقت الفراغ الذي يستهلكونه في المُشاهدة. سيكون هناك مزيد من المُشاهدة المؤثّرة، وسيكون لهذا سوابق ولواحق. في الفصل الثاني من العام الحالي، ازداد عدد المشتركين في المنصّة نفسها (10 ملايين)، فبات الرقم 193 مليوناً، يضخّون نحو ملياري دولار أميركي شهرياً. لم يسبق للفن أنْ حصل على مبلغٍ ماليّ كهذا.
العيّنة الأولى للـ"سوابق" حصلت صيف 2019، حين عرضت "نتفليكس" المسلسل الأردنيّ "جنّ". بحسب وسائل الإعلام، "أثار (المسلسل) سخط كثيرين، لاحتوائه على مَشاهد جنسية وألفاظ إباحية، بعد أنْ لاقى إعلانه إقبالاً كبيراً"، لأن "نتفليكس" اختارت شباناً لم يبلغوا العشرين بعد ليكونوا أبطاله، وهم الفئة الأكثر تعرّضاً للقمع العاطفي في العالم العربي. أطلقت المنصّة على الشريط الدعائيّ للمسلسل تعبير "مُقدّمة تشويقية عالمية". تعرّض المسلسل لانتقادات شعبية وبرلمانية. لكنْ، لم يكن بإمكان المفتي ووزير الداخلية منعه، لأن صبيب الصُوَر يأتي من بعيد. هكذا تتمّ عولمة المُشاهدة على منصّة رقمية عابرة للحواجز، بدلاً من تلفزة حكومية أو قاعة سينمائية في العاصمة، يصل إليها الرقيب.
سبق لمتظاهرين أنْ هاجموا مقرّات قنوات مختلفة. الآن، لا يُمكن لأمثال هؤلاء، الملتزمين أخلاقاً محلية، مهاجمة مقرّ "نتفليكس"، لأنّها محطة افتراضية، متفلّتة من أي رقابة، كالأوبئة. إنّها تُسلّي فقط، ولا تقتل. شكراً للعولمة. ثمّ إذا كانت الأخلاق المحلية صلبة وقوية وغير خربة، فلماذا الخوف عليها؟ في المنصّة الجديدة للبثّ، يجري اللعب في مجال لا يملك المفتي المحلي أي سلطة عليه. في هذا المجال، كتب المخرج المصري يسري نصر الله بسعادة، على صفحته الفيسبوكية: "أفلامي على (نتفليكس) بعيداً عن مقصّ الرقيب". ما مشكلة الرقيب؟ إنّه حريص على الحياء. ما هو شكل الحياء؟ أملس، لذا يُخدَش بسهولة.
"نتفليكس" متفلّتة من أي رقابة كالأوبئة
عام 1964، صرّحت فاتن حمامة في"مهرجان كانّ السينمائي الدولي" بأنّه "لم يكن مُحبّباً لامرأة أن تعمل في التمثيل، في الشرق الأوسط". مرّ نصف قرن على هذا الكلام، ولا يزال الوضع على ما كان عليه. عام 2020، يرفض ممثّلون محليون أداء مَشاهد ساخنة "احتراماً لجمهورهم". هكذا يستجيب الفنانون لـ"دعشنة" الخيال، بفصله عن الواقع. لكنْ، هل يعرف الممثلون المحتشمون جمهورهم؟ هل يميّزون بين الوقائع والخطابات المثالية؟ يحبّ المتفرّج الشرق أوسطي والشمال أفريقي مَشاهد الحبّ، شرط أنْ تكون فيها ممثلة أو راقصة "غير وطنية". واضحٌ أنّ الرقيب مُنشغلٌ بالنساء أساساً، بينما للرجال حرية كاملة. حسابياً، تحقّق مَشاهد الجنس متابعة عالية في المغرب، كـ"365 يوماً"، للبولنديين باربارا بيالواس وتوماس ماندِسْ الذي بقي ضمن الأعلى مُشاهدة طيلة زمن الحجر.
حالياً، تمنع الحكومة الجزائرية "بابيشا" (2019)، لمونية مدور الذي ستعرضه "نتفليكس" ذات يوم. في هذا الوضع، ما جدوى المنع الحكومي؟ سيكون على الأرجح مُفيداً للتعريف بالفيلم، ومربحاً لمنتجيه. هناك أيضاً "روك القصبة" (2013)، للمغربيّة ليلى مراكشي. مع مرور الوقت، سيزداد المحتوى العربي على هذه المنصّة الأميركية. سينتشر عندما تُكتب سيناريوهات متحرّرة من القبيلة والطائفة والقيم التقليدية المهترئة، وتكون السيناريوهات مشوّقة، فيها أحداث متتالية ولقطات قصيرة تقدّم معلومة كلّ 4 ثوانٍ. أما تصوير جلسة شاي في 5 دقائق، وحوارات غير درامية، نصفها جمل إنشائية ودعاء صالح (يعني أنّه حوار مملّ)، فلن يجد من يشتريه. المطلوب جرأة وواقعية.
في العصر الحديث، تحوّل الفنّ من سرد الحياة المثالية إلى التعبير عن التجربة المعيشة التي تعرّف المتفرّجين على تعقيدات واقعهم. يرفض الرقيب والواعظ هذا التحوّل. يريدان أنْ يبقى الفن مُحافظاً، يقدّم حياة مثالية دينية نقيّة، كما ينبغي أن تكون بعد تخليص الإنسان من غرائزه وعواطفه، وتصويره كملاك وقدوة.
تُحرّر عولمة المُشاهدة الإبداع من سلطة القبيلة والمفتي. أثبت الوباء أنّ المجتمعات الأكثر طائفية وقبلية هي الأكثر تضرّراً. ستحرّر العولمة الفنية المخرجَ والمنتجَ من التبعية التمويلية لحكومة بلده ومفتي بلده. ستحرّره من ضرورة البثّ في قناة بلده. عولمة المُشاهدة هي أيضاً عولمة قِيم. هكذا ستحرّر "نتفليكس" المُشاهدة والإبداع.