من يطرق الباب في مثل هذا الصباح من يوم الجمعة!
قرر أن يتجاهل الطرقات اللحوحة التي تعكر عليه صفو نومه. فتح عينيه على مضض وحمل نفسه على السير بخطى ثقيلة نحو الباب الصفيحي بني اللون، وهو يسب على الجيران الذين يعشقون مشاكسة الآخرين. كان طفله الذي لم يتجاوز العشرة أعوام قد خرج منذ الصباح يلهو مع الآخرين في الأزقة، وليلى ذهبت منذ الصباح أيضاً ذهبت إلى عيادة خالتها المريضة. وكان وحده ينعم بهدوء العطلة اليتيمة في الأسبوع.
أمام الباب كان يقف شاب في أواخر العشرينيات وفتاتان، إحداهما تحمل كاميرا تصوير تلفزيوني. فرك عينيه قبل أن يرد على الشاب "صباح الخير". كان أطفال الحارة قد تجمهروا ليشهدوا الحدث الكبير. "الصحافة تريده" هكذا كانت الناس تقول لبعضها بعضاً، وكانوا يقصدونه.
ضحك بينه وبين نفسه وكان الشاب يشرح له باقتضاب وبوضوح سبب هذه الزيارة الهامة. قال إن الفتاتين الإيطاليتين تعدان فيلماً سينمائياً عن الكوارث والأزمات في العالم، وأنهما وفيما كانا يستعرضان أرشيف الأخبار المصورة عن الوضع هنا توقفا مطولاً عند صورة لرجل كان يشارك في جنازة طفل قتل في الأحداث. كان الرجل يقف قرب الجسد المسجى بكبرياء تنزل الدمعة من عينيه. كان ذلك هو. وقال الشاب إن الأمر اقتضي من الفتاتين ثلاثة أشهر ليعرفا أنه هو الشخص المعني، وأنهما يودان كثيراً أن يقوم باستعادة اللحظة ذاتها.
كان الجميع يجلسون الآن في الغرفة الصغيرة، التي يستقبل فيها الضيوف في النهار، وفي الليل ينام فيها طفله، وكانت ابنته ليلى قد عادت على عجل أمام تناقل الناس للخبر العاجل بأن الصحافة في بيتهم وطفله يصد أولاد الجيران عن باب البيت بزهو وغرور فالمقصود أبيه، وفي نشرة المساء سيكونون على التلفزيون. أي غيرة أصابت الآخرين.
بعد برهة صمت قال "يعني بدهم إياني أمثل".
رد الشاب أن الفيلم الذي يعدونه مهم جداً، وأن الكثير من الشخصيات العالمية ستظهر فيه تتحدث عن ردة فعلها على الكوارث، التي تحيق بالعالم، ومن المهم أن يكون فيه. ومن يدري ربما أصبح مشهوراً بعد ذلك، كما أردف الشاب وهو يمد الشاي الذي جاءت به ليلى للفتاتين وهما تهزان رأسيهما موافقتان على كل كلمة يقولها من دون أن تفهما شيئاً. صاحبة الكاميرا قالت بالإيطالية إن صورته وهو يبكي في تلك الجنازة جعلتها تبكي. "كم كنت حزيناً molto "! وكان الشاب ينقل كل ما تقول.
كان الأمر مغرياً، لكن كما قال للشاب بإمكانهم استخدام الصورة الحقيقة التي بثتها وكالات الأنباء. أشاح الشاب برأسه هذه المرة من دون أن يطلب رأي الفتاتين بأن القصد صورة حقيقة.
- كيف يعني صورة حقيقة. بدك إياني أمثل، وبتقولي صورة حقيقة!
- قصدي صورة مخصصة للفيلم.
ليلى هذه المرة قالت "يعني يصير ممثل". الشاب قال إن الأمر يعود عليه بالمال. "ألف يورو وكل العملية لن تستغرق أكثر من نصف ساعة. نذهب إلى جنازة أي شاب يقتل ربما بعد ساعة وتسير أنت في الجنازة. تبكي طبعاً وانتهى الأمر. الأمر طبيعي جداً."
حاولت هذه المرة ليلى أن تؤثر على قراره حين قالت بدهشة:
- ألف يورو !!
رد الشاب بإغراء "ألف يورو"!
سحب نفساً من سيجارته التي كان قد أشعلها قبل قليل ثم قال للشاب لكن كيف تريدني أن أبكي في الجنازة القادمة.
رد الشاب بتلقائية "كما بكيت أول مرة"
- لكن في تلك المرة كانت تلك جنازة جارنا الطفل الصغير الذي تربي بيننا وكان مثل ابني.
- كل الشاب زي أولادك.
-صحيح ولكن...
"المهم أن يكون الفيلم في صالحنا"، وغمز الشاب بعينه محاولاً اللعب على وتر عواطفه ومواقفه الوطنية.
- لكن لماذا لا يقومون بتصور والد أو والدة الشاب صاحب الجنازة القادمة!
يبدو أن صاحبة الكاميرا فهمت أنه يتمنع فتدخلت بإيطاليتها لتوضح "الأمر مهم، أنا أريد أن يرى العالم كّمْ الحزن هنا، أنت بارع في إظهار هذا الحزن، ليس أي شخص يستطيع ذلك".
ما أن أنهى الشاب ترجمته، حتى انفجر صارخاً "هذا الحزن الذي تتحدث عنه ألم شخصي لا يمكن تمثيله أو استعادته. الحزن شيء شخصي كيف تريدني أن أُمّثله"
- لا تعقد الأمور. الأمور أبسط مما تتصور.
- إذا كانت كذلك فاذهبوا إلى شخص آخر.
حين كان الفريق التلفزيوني يخرج من باب البيت كان طفله يقول لصديقه "اليوم أبوي بطلع على التلفزيون وأبوك لأ، عشان تعرف إنه أبوي أحسن من أبوك".
وبدأ الأطفال في التشاجر كالعادة.
* روائي فلسطيني من مواليد مخيم جباليا 1973، من أعماله "حصرم الجنة".