"الارتِسامات اللِّطاف في خاطِر الحَاجِّ إلى أقْدس مطاف"، نص رحلةٍ، صاغه شكيب أرسلان (1869- 1946)، يستعيد فيه ذكريات مناسك الحج لموسم 1931. ويندرج هذا التأليف ضمن تقليد أدبي تليد: الرحلة إلى بلاد الحرمين، ومن عيونه ما حَبّره ابن جُبير.
ولكنَّ "ارتسامات" أرسلان تقطع مع ذاكرتها النصية، وتكاد تكون مجرد ذريعة للتأمّل في أسباب تخلّف العالم العربي، بُعَيد انهيار السلطنة العثمانية. إذ ترتفع، طيّ الملاحظات الوصفية، دعوته إلى إقامة جامعة عربية تقف في وجه الاستعمار الغربي.
فقد استغلّ أرسلان معالم الماضي التي شاهدها في ترحاله، ليشيد بما كان للأمة العربية، في عصورها الزاهية، من مجدٍ غابر، داعياً قارئيه من الساسة والمفكّرين، إلى إحياء ذلك المجد. فكيف حصل هذا التداخل الرشيق بين أسلوب الرحلة الأدبية وهموم المقال الإصلاحي؟
استعاد الكاتب اللبناني، بثقافته المتينة، ما دوَّنه أعلام الرحلة العربية، مثل ابن جبير وابن بطوطة والمَقدسي... في وصف طريق الحج، وما يصادف المسافر من أهوالٍ، وما تقع عليه عيناه من معاهد وآثار ومعالم، قبل أن يصل إلى المشاعر المقدسة.
فكانت خواطره، أمام مظاهر العمران تلك، تستندُ إلى أقوال القدامى من جغرافيي العرب ولغوييهم. ولكنه غالباً ما يشحن خواطره بخطابٍ إصلاحي، يدعو به المسلمين إلى الأخذ بأسباب التمدّن، على خطى شيخه محمد عبده، ورفيقه رشيد رضا، ناشرِ الكتاب ومحقّقه.
كما استغلّ وصفه لمظاهر التحضر التي عاينها في أسفاره، ليفند مزاعم المفكرين الغربيين، نافياً أن يكون الإسلام سبباً لتراجع المسلمين، أو حاملاً، في نصوصه، لبذور الانحطاط. ويدلّ التفنّن في عمارة المدن الإسلامية على أثر الدين، قوّة بناءٍ، حين يُفهم بشكلٍ عقلي.
لكن، إلى جانب هذا الهاجس النهضوي الحاد، تضمَّن الكتاب مقاطع سردية، شديدة الذاتية والخصوصية، لعلها اليوم أجمل ما فيه وأطرف: صفحات ناصعة خصّصها الكاتب اللبناني للتفاصيل التافهة التي تعرّض إليها أثناء مرضه بمكة والطائف، ومنها ليالي القيض حين جفاه المنام، فصار يتنقل من صهريج إلى صهريج للتبرّد، خالعاً ثوب المهابة "لأنّ الحشمة والحرارة قَلما يجتمعان". وفقراتٌ يصف فيها أوجاع اعتلاله: هشاشة هيكل الجسد حين يواجه قدره وحيداً، في صحراء نجد، يُوشِّيها السرد وهو يتهادى بين فصاحة القدامى ودقّة المجدّدين.
وبريشة الفنان، رسم لوحات المُطوِّفين والمزوّرين السعوديين، وهم يخدمون جحافل الحجيج، من كافّة أصقاع الدنيا، وجلّهم من "الفقَراء والمستورين" فيحادثونهم بلغات ورطانات فسيفسائية كأنهم "في معرض عالمي للغات". وتحت قلمه، تتابع عجلات وسائل النقل في بداياتها الخجولة وأطياف التمدّن المتدرجة التي شهدتها أرجاء المملكة في ثلاثينيات القرن الماضي.
مقاطعُ عذبة الذاتية، أطلق فيها العنان لعقله يحلّل بساطة حياة البادية في الصحراء، حتى كأنّ حديثه ملاحظات عالم اجتماعٍ يفهم قبائل الحجاز، أو تقييدات عالم أنثروبولوجيا يتفحّص أنظمة الرموز وعادات الملبس والمأكل والمباني، ومفاخر العشائر، حين تجول أفخاذها وبطونها بين الآبار والأسواق...
كتبَ أرسلان، وقد أطلق عليه معاصروه: "أمير البيان"، نصاً ناصعاً، على أنّ بلاغة السجع وصور البديع البالية تثقل بعض أنحائه. على أنّ اختيارات المعجم فيه غزيرة ثرية، استحدث بها مفردات طريفة، وانتقد بعضها الآخر، مثل ما فعله بكلمات: سيَّارة، مواتِر (شاحنات) وبُودْجَة (الميزانية).
ربما يقع هذا الكتاب بين يَدَي مخرجٍ سينمائي بارعٍ، فيستعيد مراحل رحلة دينية ثقافية، خاضها رائد إصلاحٍ، درزي المنشأ، أوروبي التكوين، يقطع بيداء نجد، قادماً من جبال سويسرا، حاملاً في ذاكرته همّ فلسطين ودعابات ابن بطوطة ونزوع عَبده إلى العقلانية.