26 سبتمبر 2023
صدمة بوتفليقة وترحيل الشعوب من أوطانها
أحدث الإعلان الرسمي عن ترشح الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، حالة من الصدمة في أوساط الجزائريين، لا تقل عن صدمة المصريين بتوجّه منظومة الحكم هناك إلى تعديل الدستور، بغرض الإبقاء على عبد الفتاح السيسي في الحكم إلى الأبد، الأمر الذي شكل حالة من اليأس العام، سيطرت حاليا على الشارع العربي، من إمكانية التغيير السلمي، إلى الحد الذي بدأت تلوح فيه مؤشّرات واضحة، عن نزوع أعداد كبيرة، خصوصا من شباب تلك الشعوب المقهورة، باعتبارها آخر حل على ما يبدو، نحو هجر أوطانها بالكامل، والرحيل الجماعي، وترك الحكام الملتصقين بالكراسي وحدهم، يحكمون الجدران وأعمدة الكهرباء.
هكذا، بهذه السخرية السوداء القاتلة، تتوثّب شعوب عربية كثيرة اليوم، وقد رأت، بأم عينها، مآلات نضالاتها الممتدة عقودا طويلة، وهي تتهاوى، أمام إصرار تلك المنظومات العتيقة، وتركيبات "الدولة العميقة" فيها، على سرقة أحلام الجماهير في الحرية والتقدّم، والتخلص من قيود القهر والفقر، بعد أن اكتمل تسفيه تلك الأحلام وبعثرتها، إثر نجاح الثورات المضادة في تحويل ربيع العرب الذي انطلق مزهرا بألوان الورد المختلفة إلى رمادٍ تذروه الرياح، من سهول دمشق إلى صحراء ليبيا.
الجزائريون اليوم الذين دشنوا هاشتاغات (الهربة) كما يسمونها، وراحوا يرفعون شعارات مؤلمة، من قبيل (يا ترحلوا_يا نرحل)، لا يعيشون الصدمة فقط، بعد أن قرّر بوتفليقة البقاء في الحكم، إنهم كما عبرت عن ذلك زعيمة حزب العمال الجزائري، لويزة حنون، مرعوبون مما قد يحدث مستقبلا، حتى أن الهروب من البلاد (وليس الهجرة بمفهومها الكلاسيكي)، بات حالةً يمكنك أن تلمسها في عيون كل الجزائريين تقريبا، وفي مقدمتهم من يسمّون الجيل
"البوتفليقي" الذي ولد وترعرع في عهد "فخامته"، هؤلاء وغيرهم، ميّزوا الولاية الرابعة لرئيسهم بأشلائهم المتناثرة على الشطآن من قوارب الموت، حتى أن تفاقم الظاهرة، في الشهور الأخيرة، اضطرت الرئيس في رسالة الترشح للولاية الخامسة، إلى الاعتراف بها صراحةً، كما دفعت السلطات من وزارة الداخلية إلى رئاسة الحكومة إلى التحرّك ودق ناقوس الخطر. لكن وعوضا عن البحث في أسباب هذا الهروب الجماعي للناس من وطنهم، رأينا كيف عمدت السلطات إلى المبرّرات "التلفيقية" التي تحمل معاني استخفاف كثيرة بتلك المعاناة، فمرّة تقول إن الدعاية الفيسبوكية هي من الأسباب الرئيسية، ومرّة تسخر من الهاربين من نعيم الوطن، بالقول أن 90% من "الحرّاقة" (المهاجرين غير الشرعيين) يشتغلون الآن في جني الطماطم والبرتقال في مزارع أوروبا.
ثمّة مشكلة أعمق بكثير من البطالة والبحث عن فرص للعمل، يا مولانا، فالجزائر التي تمتلئ بحقول البرتقال والطماطم، وحقول العنب والرمان، لا تعاني، وهي أكبر بلد أفريقي من حيث المساحة، من نقصٍ في خيرات الأرض، وإنما من نقصٍ في هواء الحرية، وقد ثبت أنه، منذ انقلاب يناير 1992 الذي أجهض ثمار ثورة أكتوبر 1988، هرب، في الموجة الأولى، ملايين الجزائريين إلى الخارج، خوفا من قطع الأعناق، وليس الأرزاق فقط، وإذا كانت التقديرات تتحدث اليوم عن وجود حوالي سبعة ملايين جزائري، يعيشون خارج الوطن، فإن الخوف الآن، بعد الإعلان الرسمي لترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة، وفقدان الانتخابات الرئاسية المقبلة أي معنىً أو تشويق، أن تبدأ الموجة الثانية من النزوح الأكبر، وهي الموجة المتوقع أن تكون أوسع وأشد من سابقتها، لكونها ستكون مرتبطةً، علاوة عن الخوف والرعب من المستقبل، بحالةٍ من اليأس التام في التغيير، فقد جرّب الجزائريون النضال السلمي طويلا بلا فائدة، كما جرّبوا العمل المسلح الذي قامت به بعض الجماعات الإسلامية، من دون أن تتغير المعادلة الصفرية مطلقا، وبالتالي فإن الرحيل الجماعي بات لدى شرائح واسعة من الناس، قضية حياة أو موت.
هذه العقلية التسلطية التي تترسخ بشكل مرضي في جل أنظمة الحكم العربية، هي التي أحدثت نكبة الشعب السوري الذي تم ترحيله بالكامل تقريبا، بعد أن طالب برحيل النظام، وقبل هذا وبعده، حدث ويحدث الشيء نفسه، مع الشعوب التي يقهرها الاستبداد والعنف، في العراق ومصر وليبيا واليمن، أو تلك التي يُطبق عليها الفقر والفاقة، كالمغرب وتونس والأردن، قبل أن تصل عدوى الهروب من الأوطان المغلقة، الأوطان التي تغتال فيها الكرامة والأمل، إلى بعض دول الخليج، كالسعودية في ظل الحكم الجديد، بعد أن استعاضت بالرفاهية الزائفة و"الترفيه" المبتذل عن الديمقراطية الحقيقية .
ظلت شعارات الجماهير "إرحل" dégage" التي ترفعها في التظاهرات المطالبة بالحقوق تقض مضاجع الطغاة في كل أوطاننا العربية، غير أن قرارا ما يبدو أنه صيغ في مختبراتٍ
غربية، ارتأى أن لا ترحل تلك الأنظمة "الوظيفية"، حتى وإن رحلت الشعوب بأكملها أو رُحّلت، أو تمت إباداتها عن بكرة أبيها على طريقة الهنود الحمر. ولذلك، تشكلت، مع الوقت، قناعاتٌ ومسلماتٌ لدى هذه الشعوب المقهورة، أن النضال السلمي الراقي لا ينفع، لأنه غير مسموحٍ بإيجاد أدوات التغيير الطبيعية، فالأحزاب مخترقة مخابراتيا، والنضال الجمعوي الخيري بات محاصرا بقوانين محاربة الإرهاب، والدساتير تُخاط على مقاس الرؤساء والملوك، والقوانين صالحةٌ للتطبيق على الضعفاء فقط، والتظاهرات في الشارع ممنوعةٌ إلا على "المطبّلين والمزمرين"، وحرية التعبير في وسائل الإعلام محاصرة، والتزوير شغال في كل الانتخابات العربية الشفافة، فما هي الخيارات المتبقية أمام الشعوب المقهورة غير الرحيل؟ وهل هذا هو الحل فعلا؟
والحاصل أن خامسة بوتفليقة ودستور السيسي ليسا إلا صورةً من حالة الضياع وانعدام الخيارات التي لم يسبق أن وصلت اليها الشعوب العربية. ومع ذلك، من المهم هنا الاستدراك، والتذكير بأن تحويل أوطاننا من بيئة طاردة للكفاءات إلى بيئة قاهرة، طاردة حتى للشعوب، إما بالبراميل المتفجرة، أو الغلق السياسي وتعميم الفقر، هي أعظم شيء يخدم مصالح الطغيان، واستمرارية الفساد، وأن الرحيل أو الهروب الجماعي إلى بلدان أجنبية (لا يظلم عندها أحد) كما يقال، لا يكون دائما الحل الأمثل، أمام جماهير، أدمنت، على الرغم من كل شيء، حب الوطن، وأدمنت تراب الوطن، وهي حتى وإن غادرته مرغمةً، تظل ملتصقةً به بشكل أو بآخر.
هذا النوع من الإدمان الحلو، الشفاف، الممزوج بالإيمان بالله، وقدرته على نصر المظلومين، هو الذي يدفع هذه الجماهير البائسة لكي تنتعش في أشد لحظات اليأس، ولكي تبقى محافظةً على "شعرة معاوية" مع أوطانها، ذلك أن صناعة اليأس والتيئيس التي تمارسها معظم النظم العربية، عبر سياسات "التمديد" و"التأبيد" والتفقير، لا ينبغي لها أن تنجح، لأن طوفان الحرية الذي انفجر في ربيع 2011 لم تخمد شعلته تماما، وها هي الجماهير الحية في السودان تحمل اللواء الذي ظن أنه سقط، في انتظار أن يثور بركان الأمل من جديد.
هكذا، بهذه السخرية السوداء القاتلة، تتوثّب شعوب عربية كثيرة اليوم، وقد رأت، بأم عينها، مآلات نضالاتها الممتدة عقودا طويلة، وهي تتهاوى، أمام إصرار تلك المنظومات العتيقة، وتركيبات "الدولة العميقة" فيها، على سرقة أحلام الجماهير في الحرية والتقدّم، والتخلص من قيود القهر والفقر، بعد أن اكتمل تسفيه تلك الأحلام وبعثرتها، إثر نجاح الثورات المضادة في تحويل ربيع العرب الذي انطلق مزهرا بألوان الورد المختلفة إلى رمادٍ تذروه الرياح، من سهول دمشق إلى صحراء ليبيا.
الجزائريون اليوم الذين دشنوا هاشتاغات (الهربة) كما يسمونها، وراحوا يرفعون شعارات مؤلمة، من قبيل (يا ترحلوا_يا نرحل)، لا يعيشون الصدمة فقط، بعد أن قرّر بوتفليقة البقاء في الحكم، إنهم كما عبرت عن ذلك زعيمة حزب العمال الجزائري، لويزة حنون، مرعوبون مما قد يحدث مستقبلا، حتى أن الهروب من البلاد (وليس الهجرة بمفهومها الكلاسيكي)، بات حالةً يمكنك أن تلمسها في عيون كل الجزائريين تقريبا، وفي مقدمتهم من يسمّون الجيل
ثمّة مشكلة أعمق بكثير من البطالة والبحث عن فرص للعمل، يا مولانا، فالجزائر التي تمتلئ بحقول البرتقال والطماطم، وحقول العنب والرمان، لا تعاني، وهي أكبر بلد أفريقي من حيث المساحة، من نقصٍ في خيرات الأرض، وإنما من نقصٍ في هواء الحرية، وقد ثبت أنه، منذ انقلاب يناير 1992 الذي أجهض ثمار ثورة أكتوبر 1988، هرب، في الموجة الأولى، ملايين الجزائريين إلى الخارج، خوفا من قطع الأعناق، وليس الأرزاق فقط، وإذا كانت التقديرات تتحدث اليوم عن وجود حوالي سبعة ملايين جزائري، يعيشون خارج الوطن، فإن الخوف الآن، بعد الإعلان الرسمي لترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة، وفقدان الانتخابات الرئاسية المقبلة أي معنىً أو تشويق، أن تبدأ الموجة الثانية من النزوح الأكبر، وهي الموجة المتوقع أن تكون أوسع وأشد من سابقتها، لكونها ستكون مرتبطةً، علاوة عن الخوف والرعب من المستقبل، بحالةٍ من اليأس التام في التغيير، فقد جرّب الجزائريون النضال السلمي طويلا بلا فائدة، كما جرّبوا العمل المسلح الذي قامت به بعض الجماعات الإسلامية، من دون أن تتغير المعادلة الصفرية مطلقا، وبالتالي فإن الرحيل الجماعي بات لدى شرائح واسعة من الناس، قضية حياة أو موت.
هذه العقلية التسلطية التي تترسخ بشكل مرضي في جل أنظمة الحكم العربية، هي التي أحدثت نكبة الشعب السوري الذي تم ترحيله بالكامل تقريبا، بعد أن طالب برحيل النظام، وقبل هذا وبعده، حدث ويحدث الشيء نفسه، مع الشعوب التي يقهرها الاستبداد والعنف، في العراق ومصر وليبيا واليمن، أو تلك التي يُطبق عليها الفقر والفاقة، كالمغرب وتونس والأردن، قبل أن تصل عدوى الهروب من الأوطان المغلقة، الأوطان التي تغتال فيها الكرامة والأمل، إلى بعض دول الخليج، كالسعودية في ظل الحكم الجديد، بعد أن استعاضت بالرفاهية الزائفة و"الترفيه" المبتذل عن الديمقراطية الحقيقية .
ظلت شعارات الجماهير "إرحل" dégage" التي ترفعها في التظاهرات المطالبة بالحقوق تقض مضاجع الطغاة في كل أوطاننا العربية، غير أن قرارا ما يبدو أنه صيغ في مختبراتٍ
والحاصل أن خامسة بوتفليقة ودستور السيسي ليسا إلا صورةً من حالة الضياع وانعدام الخيارات التي لم يسبق أن وصلت اليها الشعوب العربية. ومع ذلك، من المهم هنا الاستدراك، والتذكير بأن تحويل أوطاننا من بيئة طاردة للكفاءات إلى بيئة قاهرة، طاردة حتى للشعوب، إما بالبراميل المتفجرة، أو الغلق السياسي وتعميم الفقر، هي أعظم شيء يخدم مصالح الطغيان، واستمرارية الفساد، وأن الرحيل أو الهروب الجماعي إلى بلدان أجنبية (لا يظلم عندها أحد) كما يقال، لا يكون دائما الحل الأمثل، أمام جماهير، أدمنت، على الرغم من كل شيء، حب الوطن، وأدمنت تراب الوطن، وهي حتى وإن غادرته مرغمةً، تظل ملتصقةً به بشكل أو بآخر.
هذا النوع من الإدمان الحلو، الشفاف، الممزوج بالإيمان بالله، وقدرته على نصر المظلومين، هو الذي يدفع هذه الجماهير البائسة لكي تنتعش في أشد لحظات اليأس، ولكي تبقى محافظةً على "شعرة معاوية" مع أوطانها، ذلك أن صناعة اليأس والتيئيس التي تمارسها معظم النظم العربية، عبر سياسات "التمديد" و"التأبيد" والتفقير، لا ينبغي لها أن تنجح، لأن طوفان الحرية الذي انفجر في ربيع 2011 لم تخمد شعلته تماما، وها هي الجماهير الحية في السودان تحمل اللواء الذي ظن أنه سقط، في انتظار أن يثور بركان الأمل من جديد.