07 يونيو 2019
صروح وأضرحة
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
الجميع هنا في مدينتنا يسألون، يستفسرون، يحدقون الأعين، عسى أن يروا شيئاً حقيقياً فعلياً عن الهوى، الحياة، المستقبل، الوجود والبقاء، الجميع يحدق ويشده، يُصغي فلا يسمع سوى أطلال إبراهيم ناجي: "كان صرحاً من خيال فهوى".
أحلام اليقظة التي تُبث لنا ليل نهار، تركتنا عراة في مهب الريح، سرابها يقتات على أرواحنا، نُشيد صروحاً من الأوهام، بلا قوام أو عماد، فتَخِر بنا في أسفل سافلين عند سبع أرضين، العجيب أننا أدمناها وصرنا لا نستغني عنها، فعندما يهيج الشجن والهم في النفوس لتدني أحوالنا وواقعنا، يتم اختراع حالة من طول الأمل والغد الأفضل، نشوة طارئة زائفة تقذف بنا، كأحد المخدرات، إلى عالم يفوق السحاب، يعقبه سقوط مُدمِر مُشوِه، يطمس أجزاء من معالم شخصيتنا ويمحي مقومات هويتنا التي ذبلت نتيجة الركون والرضوخ لهذا المخدر الهلامي من خيال العظمة المريض وسفسطة الكلام المعسول غير المجدية الذي يسقى لنا بين الفينة والأخرى حتى لا نكاد نستفيق.
قامته الطويلة الممشوقة، وشاربه المخطوط في كثافة معتدلة على شفته العليا، لهجته البدوية، العفوية حينا والداهية حينا أخرى، تنم على أنه شيخ قبيلة مُنتظَر، خصوصاً أنه بجانب المقومات التي ورثها من فطرته وبيئته، تعلم تعليماً جامعياً، فلديه هذه الحكمة والتوازن في التعامل مع كافة الناس بشتى مشاربهم، وله من خفة الظل ما يحبّب إليك جلسته والأنس بالحديث معه، بل الافتخار أن يصبح صديقا لك، هكذا كان يبدو وسط حضوره الطاغي وشخصيته العملية المتفردة التي تفرض نفسها في أي مكان وزمان، فلم يجد أحد بدا إلا أن يقدره قدره.
بسط لنا على الرمل قطعتين من ورق الكرتون، وأسندنا ظهورنا إلى سور قصير، بقينا وحيدين وأمامنا كوبان من الشاي من نفقته الخاصة، منذ فترة كان يوحي إليّ بأن لديه رغبة شديدة في محادثتي على انفراد، كي يحكي ويقص حكايات وتجارب ربما تستهوي شهية القلم.
المهم أن الفرصة قد أتت، فوجدته يسترسل في الحديث عن المخدرات التي دمرت أجيال من الشباب، على حد تعبيره، إثر غطرسة مجتمعية مميتة همشت ذواتهم. الحقيقة أنني كنت أبذل قصارى جهدي، خصوصا بعد منتصف الحديث، حتى لا أغفو أمامه، فيظهر أنني لا أعبأ بكلامه. لكن أصدقكم القول إنني لم أجد تحمسا داخليا لأستمع إلى تفاصيل عن المخدرات التي مرّ على مسمعي بعض منها في الجامعة في أثناء دراسة مادة علم السموم، أمثال الماريجوانا والاستروكس والكيتامين والكبتاجون، فهذا وقت راحة وأنا أولى بنوم سويعات وقت الظهيرة بسبب الإرهاق البدني والنفسي الذي أتكبده في حياتي الراهنة.
على كل حال، لم أرغب مطلقا أن أسيء إلى مشاعره، استأذنته أن أتكئ وأتمدد على جانبي الأيمن كأن هناك ألماً بجانبي الأيسر، واصطنعت الإصغاء التام، لا أعتقد بأي حال من الأحوال أنه كان سيصمت عن الكلام، التجربة على ما يبدو كانت شخصية بشكل مؤلم، نبرة صوته وملامح وجهه، التهامه للسجائر حتى كدت أصاب بالتهاب رئوي، تخبرك بكل شيء يريد التلميح إليه دون تصريح، كان يعرف كل تفصيلة عن كل مادة مخدرة تحدث عنها، كأنه عاشرها في عالمها السحري فترة من الزمن ليست بالوجيزة.
ومن هنا، لم أشك لحظة أنه يحكي عن شخص غيره، وعلى الرغم من حالتي النصف واعية والنصف نائمة، استطعت خلال بعض الأسئلة أن أجعله يحكي بضمير المتكلم، وليس الغائب، وأن يصارحني بأنه هو من عانى ويلات المخدرات حتى استطاع أن يُعالج منها، لكن بقى أثرها النفسي الذي يخفيه عن الناس جميعا بجسارة قلبه ورباطة جأشه، أما ظهوره أمامي بهذا الوهن والحزن فبسبب ثقته العمياء فيّ انطلاقاً من احتمالية أن أكون صاحب قلم، مما جعله يضع سره كله بين يدي دون تحفظ أو مواربة.
بعد حوالي خمسة وأربعين إلى ستين دقيقة، انتهينا وقمنا من مكاننا، نفَّضتُ عني الغبار كما نفَّضتُ عني الكلام، ليس استهانة بتجربته، فقط لم أشعر أنني أريد أن أقول أو أكتب شيئا، فأحيانا أحس أنني أبغض الكتابة وأكرهها كأنها فتاة عشقتها واستدرجتني حتى تزوجتها، فأنجبنا أطفالاً تعذبنا بسببهم وتعذبوا بسببنا، فيضمحل الحب ونصبح سبب تعاسة بعضنا، حينها ربما نتمنى أن يعود بنا الزمن فنظل نهوى بعضنا بالكلمات والنظرات دون أي اقتران عضوي، لكن ما أيقنه الفؤاد منذ الصغر أن سنة الحياة تبقى الأقوى من كل شيء، لذا أعود فأكتب وأقول: المخدرات تُساق لنا في الماء والهواء، في النظرات والكلمات الناعمة، المُخدِر كما عرفته دائما أن تخلق إلهً فوق البشر كي تنسى أنك متأخر عن جميع البشر.
أحلام اليقظة التي تُبث لنا ليل نهار، تركتنا عراة في مهب الريح، سرابها يقتات على أرواحنا، نُشيد صروحاً من الأوهام، بلا قوام أو عماد، فتَخِر بنا في أسفل سافلين عند سبع أرضين، العجيب أننا أدمناها وصرنا لا نستغني عنها، فعندما يهيج الشجن والهم في النفوس لتدني أحوالنا وواقعنا، يتم اختراع حالة من طول الأمل والغد الأفضل، نشوة طارئة زائفة تقذف بنا، كأحد المخدرات، إلى عالم يفوق السحاب، يعقبه سقوط مُدمِر مُشوِه، يطمس أجزاء من معالم شخصيتنا ويمحي مقومات هويتنا التي ذبلت نتيجة الركون والرضوخ لهذا المخدر الهلامي من خيال العظمة المريض وسفسطة الكلام المعسول غير المجدية الذي يسقى لنا بين الفينة والأخرى حتى لا نكاد نستفيق.
قامته الطويلة الممشوقة، وشاربه المخطوط في كثافة معتدلة على شفته العليا، لهجته البدوية، العفوية حينا والداهية حينا أخرى، تنم على أنه شيخ قبيلة مُنتظَر، خصوصاً أنه بجانب المقومات التي ورثها من فطرته وبيئته، تعلم تعليماً جامعياً، فلديه هذه الحكمة والتوازن في التعامل مع كافة الناس بشتى مشاربهم، وله من خفة الظل ما يحبّب إليك جلسته والأنس بالحديث معه، بل الافتخار أن يصبح صديقا لك، هكذا كان يبدو وسط حضوره الطاغي وشخصيته العملية المتفردة التي تفرض نفسها في أي مكان وزمان، فلم يجد أحد بدا إلا أن يقدره قدره.
بسط لنا على الرمل قطعتين من ورق الكرتون، وأسندنا ظهورنا إلى سور قصير، بقينا وحيدين وأمامنا كوبان من الشاي من نفقته الخاصة، منذ فترة كان يوحي إليّ بأن لديه رغبة شديدة في محادثتي على انفراد، كي يحكي ويقص حكايات وتجارب ربما تستهوي شهية القلم.
المهم أن الفرصة قد أتت، فوجدته يسترسل في الحديث عن المخدرات التي دمرت أجيال من الشباب، على حد تعبيره، إثر غطرسة مجتمعية مميتة همشت ذواتهم. الحقيقة أنني كنت أبذل قصارى جهدي، خصوصا بعد منتصف الحديث، حتى لا أغفو أمامه، فيظهر أنني لا أعبأ بكلامه. لكن أصدقكم القول إنني لم أجد تحمسا داخليا لأستمع إلى تفاصيل عن المخدرات التي مرّ على مسمعي بعض منها في الجامعة في أثناء دراسة مادة علم السموم، أمثال الماريجوانا والاستروكس والكيتامين والكبتاجون، فهذا وقت راحة وأنا أولى بنوم سويعات وقت الظهيرة بسبب الإرهاق البدني والنفسي الذي أتكبده في حياتي الراهنة.
على كل حال، لم أرغب مطلقا أن أسيء إلى مشاعره، استأذنته أن أتكئ وأتمدد على جانبي الأيمن كأن هناك ألماً بجانبي الأيسر، واصطنعت الإصغاء التام، لا أعتقد بأي حال من الأحوال أنه كان سيصمت عن الكلام، التجربة على ما يبدو كانت شخصية بشكل مؤلم، نبرة صوته وملامح وجهه، التهامه للسجائر حتى كدت أصاب بالتهاب رئوي، تخبرك بكل شيء يريد التلميح إليه دون تصريح، كان يعرف كل تفصيلة عن كل مادة مخدرة تحدث عنها، كأنه عاشرها في عالمها السحري فترة من الزمن ليست بالوجيزة.
ومن هنا، لم أشك لحظة أنه يحكي عن شخص غيره، وعلى الرغم من حالتي النصف واعية والنصف نائمة، استطعت خلال بعض الأسئلة أن أجعله يحكي بضمير المتكلم، وليس الغائب، وأن يصارحني بأنه هو من عانى ويلات المخدرات حتى استطاع أن يُعالج منها، لكن بقى أثرها النفسي الذي يخفيه عن الناس جميعا بجسارة قلبه ورباطة جأشه، أما ظهوره أمامي بهذا الوهن والحزن فبسبب ثقته العمياء فيّ انطلاقاً من احتمالية أن أكون صاحب قلم، مما جعله يضع سره كله بين يدي دون تحفظ أو مواربة.
بعد حوالي خمسة وأربعين إلى ستين دقيقة، انتهينا وقمنا من مكاننا، نفَّضتُ عني الغبار كما نفَّضتُ عني الكلام، ليس استهانة بتجربته، فقط لم أشعر أنني أريد أن أقول أو أكتب شيئا، فأحيانا أحس أنني أبغض الكتابة وأكرهها كأنها فتاة عشقتها واستدرجتني حتى تزوجتها، فأنجبنا أطفالاً تعذبنا بسببهم وتعذبوا بسببنا، فيضمحل الحب ونصبح سبب تعاسة بعضنا، حينها ربما نتمنى أن يعود بنا الزمن فنظل نهوى بعضنا بالكلمات والنظرات دون أي اقتران عضوي، لكن ما أيقنه الفؤاد منذ الصغر أن سنة الحياة تبقى الأقوى من كل شيء، لذا أعود فأكتب وأقول: المخدرات تُساق لنا في الماء والهواء، في النظرات والكلمات الناعمة، المُخدِر كما عرفته دائما أن تخلق إلهً فوق البشر كي تنسى أنك متأخر عن جميع البشر.
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير