أعلن البنك المركزي المصري قبل أسبوعين انخفاض احتياطي النقد الأجنبي لديه بأكثر من خمسة مليارات دولار، خلال شهر مارس/ آذار المنتهي، ليصل إلى 40.1 مليار دولار مقابل 45.5 مليار دولار في نهاية فبراير/ شباط الماضي، بعد أن تسببت أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19) في تراجع أسعار أغلب الأسهم والسندات الأميركية والعالمية بصورة كبيرة، الأمر الذي دفع نسبة كبيرة من المستثمرين الأجانب إلى الخروج من السوق المصرية، وزاد من الطلب على العملة الأجنبية في مصر.
ولم يكن خروج الأجانب هو العامل الوحيد المؤثر في انخفاض احتياطي النقد الأجنبي، وفقاً للبنك المركزي المصري، وإنما كانت هناك أيضاً التزامات تخص المديونية الخارجية للبلاد، اضطرت الحكومة المصرية للوفاء بها، بالإضافة إلى الاحتياجات الطبيعية للشركات المصرية للاستيراد من الخارج.
ولا تعد الضربة، التي أطاحت أكثر من 12% من احتياطي النقد الأجنبي المصري، خاصة بالسوق المصرية وحدها، وإنما هي جزء من حركة نزوح جماعي لرؤوس الأموال الأجنبية من الأسواق الناشئة، وهو ما يحدث دائماً عند الشعور باقتراب الاقتصاد العالمي من أزمة كبيرة. وفي حين كان أمام البنك المركزي المصري خياران، تمثل الأول في ترك سعر العملة المصرية للتحرك وفقاً لمحددات العرض والطلب الأخيرة، والتي كانت تفرض تراجع سعر العملة المصرية بصورة واضحة، كان الخيار الثاني هو التمسك بتثبيت السعر، مع مقابلة الطلب المتزايد بالسحب من الاحتياطي الأجنبي، وهو ما اختاره البنك المركزي ورئيسه المتفائل دائماً، أملاً في انتهاء الأزمة، أو ما يخصنا منها، مع بقاء السعر عند مستوياته الحالية.
لكن الواقع يقول إن الضغوط على العملة المصرية لن تأتي من خروج الاستثمارات الأجنبية وحده، وإنما ستتعرض سوق عرض العملة الأجنبية في مصر لأزمة كبيرة، نتيجة لما حدث وما يُتوقع حدوثه خلال الأشهر المتبقية من العام الحالي، من تدني عدد السياح الأجانب القادمين للبلاد، وتراجع إيرادات قناة السويس، كما تحويلات المصريين العاملين في الخليج، وكلها كانت روافد أساسية للعملة الأجنبية الواردة للبلاد خلال السنوات الأخيرة.
ولو استمر البنك المركزي في تثبيت السعر، ومقابلة الطلب الزائد عن المعروض من العملة الأجنبية بالسحب من احتياطي النقد الأجنبي، فلن ينتهي هذا العام إلا ويكون الاحتياطي قد عاد إلى مستوياته المقلقة، التي شهدناها قبل سنوات. ويمثل انخفاض الاحتياطي مشكلة مزمنة، عانى منها الاقتصاد المصري لسنوات، إلا أنه يأتي هذه المرة في ظروف مختلفة، إذ إننا استنفدنا أغلب الفرص المتاحة للاقتراض، وارتفعت ديوننا الخارجية إلى 109 مليارات دولار، في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، وهو آخر رقم معلن، كما أن أغلب من اعتدنا الاقتراض منهم يعانون حالياً من جراء أزمة الفيروس، كما التراجع المذهل في أسعار النفط.
وعلى الرغم من كرهي الشديد للاقتراض من الدول الخليجية، إلا أن الحقيقة التي لا تخفى على أي مهتم بالشأن المصري تؤكد أن الودائع التي تم الحصول عليها من الدول الخليجية، على مدار السنوات السبع السابقة، ساهمت بشكل كبير في تحسين "صورة" الاقتصاد المصري، وسهّلت حصوله على قرض صندوق النقد الدولي، ودخول بعض الاستثمارات، وإن كانت من الأموال الساخنة، في سوق الدين بالعملة المصرية.
أما الآن، وبعد تراجع الطلب على نفط الخليج، وتورط العديد من دوله في توسعات مشروعة وغير مشروعة، لا يبدو أن أسعار النفط الحالية ستسمح لحلفاء النظام المصري بإقراضه، على الرغم من ضعف المبالغ المطلوبة مقارنة باحتياطياتهم من النقد الأجنبي. وفي حين تشير أقرب التقديرات إلى أن سعر برميل النفط الذي يحقق التوازن لميزانيات السعودية والإمارات يتجاوز الثمانين دولاراً، اضطرت الدولتان إلى التوجه إلى السوق العالمية والمحلية للاقتراض.
ويوم الأحد، وبعد تراجع السيولة لدى الحكومة الإماراتية، اقترضت الإمارات 7 مليارات دولار، في صورة سندات دولية، كان أكثر من 40% منها لمدة 30 عاماً. ويضاف المبلغ إلى 10 مليارات دولار كانت الإمارات قد اقترضتها في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
وفي نفس الاتجاه سارت السعودية، التي اقترضت ما يقرب من 30 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضي 2019، ليصل الدين العام في أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم إلى 181 مليار دولاراً للمرة الأولى في تاريخها، بنهاية العام. ثم اقترضت المملكة 5 مليارات دولار أخرى في يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، كان أكثر من نصفها لمدة 35 عاماً. وقبل أسبوعين، توقّعت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني ارتفاع عجز الموازنة السعودية إلى 80 مليار دولار، تمثل 12% من الناتج المحلي الإجمالي السعودي، بعد أن كان 4.5% فقط العام الماضي، باحتساب متوسط سعر خام برنت 35 دولاراً، بينما سجل سعره اليوم 25 دولاراً فقط.
الخلاصة إذاً أن السعودية، التي اضطرت إلى خفض إنفاقها بنسبة 5% بعد تراجع عائدات النفط، وتوقُف الحج والعمرة لديها لحين إشعار آخر، والإمارات المضطرة لمضاعفة إنفاقها في العديد من البلدان العربية، تنفيذاً لأجندة سياسية واضحة، لن يكونا على استعداد لمدّ مصر بمليارات الدولارات مرة أخرى، وربما يكون أفضل الأحوال هو تجديد الودائع التي تستحق على مصر، وهو ما لا يمكن التأكد منه، في ظل الأوضاع الحالية، حتى الآن.
ولا يتبقى بعد ذلك، لو استمرت السياسات الاقتصادية الحالية للحكومة المصرية، ولم تستغل الظروف المتاحة لإحلال الواردات والدخول بقوة في التصنيع والتصدير، إلا صندوق النقد الدولي، الذي يقف على أهبة الاستعداد، في انتظار أفضل "زبائنه" على الإطلاق، الذين يرفعون الدعم دون مناقشة، ويعوّمون العملة، ولا يعبأون بآلام المواطنين، ونزولهم تحت خط الفقر، اعتماداً على قبضة سياسية محكمة على البلاد والعباد. لكن المشكلة أن الصندوق لو حضر مرة ثانية، فلن يخرج إلا وفي يده حفنة من الشركات المصرية، التي يسيل لعابه لها منذ سنوات، لتكون حلقة جديدة من حلقات تبديد الثروات المصرية.