كان العرب الأوائل محدودين بأفق صحرائهم حتى أيقظ القرآن لغتهم، فتوسّعوا في كل الاتجاهات، ثم ظلّت حضارتهم عند الأفق الجديد حتى اضطرت إلى تطويرات جديدة، ومنها حاجتهم إلى الفلسفة.
اعتبرت الفلسفة -باعتبارها معرفة جُلبت من اليونان- وثنية. فكيف أمكن تأصيلها في فضاء يحكمه الخطاب الديني الجديد الذي طرحه الإسلام؟
يمثل الفارابي نموذجاً لهذا التصميم على البناء اللغوي الجديد، ففي سبيل ترجمة النصوص اليونانية كان عليه أن يضرب في أعماق العربية ويشتغل على اشتقاقاتها كي يتمكّن من قطع المسافة من "اللفظة" الموجودة في المعجم العربي وصولاً بها إلى "المفهوم"؛ العملة التي يجري تداولها في فضاء الفلسفة.
يقدّم "كتاب الحروف" للفارابي نماذج للكثير من ممارسات هذه الصنعة الدقيقة؛ صناعة المفاهيم. وبهذا الاشتغال، صارت العربية لغة فلسفة. لكن ما جرى بعد القرن الرابع الهجري وإلى الآن، هو مسار تاريخي في تبديد هذه القيمة، لتعود العربية اليوم من جديد لغة غير فلسفية، كونها تأخّرت في ملاحقة المفاهيم الجديدة علاوة على القدرة على إنتاجها.
في ظل هذا التأخر، ترى كيف نستطيع التفكير اليوم بلغة غير مجهّزة بالمفاهيم؟ قد يبدو التساؤل تشاؤمياً، لكن لن نحتاج سوى إلى استحضار صنعة عربية قديمة وبناء إرادة، علماً أن كل لغات الفلسفة اليوم لم تكن كذلك منذ أربعة قرون، فما بالك بلغة عليها فقط البحث في مكتسباتها؟
اقرأ أيضاً: لغة ثانية