صورة الطفل الغريق

11 سبتمبر 2015

ما أسباب موت هذا الطفل، وقبله أطفالٌ في الغوطة.

+ الخط -
ليس مؤكداً أن يبقى الألم الذي تخلفه صور الفواجع الإنسانية في نفوس الناس بالقدر نفسه لحظة حدوث الفواجع. هناك ألمٌ تتركه الصورة لطفل متشظي الجسد نتيجة الحروب، أو لأطفال قتلوا بالغازات السامة، أو لرجال ونساء قضوا تحت التعذيب، وحملت صورهم دلائل رعب إنسانياً، عند إدراك فقد الحياة في ذروة فقد الإنسانية في لحظة أصعب من أن تحتمل، وقد كان لصورة الطفل السوري الذي وجد على شاطئ في تركيا ميتاً غرقاً، هو وأخوه الذي يكبره في الأيام الأخيرة، أبعد الأثر في إشاعة الألم لدى الناس، فقد انتشرت هذه الصورة التي تقدم لنا طفلاً في إغفاءة على رمال الشاطئ لا تظهر وجهه كاملاً، وقد أدار جسده إلى العالم، وبرز حذاؤه في مقدمة الصورة، كأنه يصفع الضمائر، أو كأنه زعلان من أبيه الذي كان يصارع أمواج البحر كي ينقذه، أو ربما من الفراغ الذي يمثله امتداد البحر، أو من خواء الموج من القلوب الرحيمة.
كتب كثيرون عن الصورة، وشاركها ملايين من متسخدمي وسائط التواصل الاجتماعي، معبرين عن حزنهم وغضبهم أحياناً، وتناولت الصحف والتلفزات الصورة، لتبرز تراجيديا السوريين التي فاضت عن أرض سورية، لتنتشر في بقاع الأرض دليلاً على عمق المأساة. رفض كثيرون استخدام الصورة بهذه الكثافة، ربما بسبب الألم الذي تثيره في النفوس، فجميعنا نجد في صورة طفل ميت منتهى العنف وذروة الوجع، لكننا جميعاً تحدثنا عنها، حتى الذين رفضوا كثافة استخدامها تحدثوا عن ألمهم، بمكابرة إنسانية من السهل تفسيرها، فنحن إزاء الصور القاسية، بما تنتجه من مشاعر الخيبة والانكسار في أرواحنا ندرك عجزنا، نحن البشر، ونلمس في تفاصيل الصورة هشاشتنا وقلة حيلتنا أمام المصير التراجيدي لصاحب الصورة، خصوصاً عندما يكون طفلاً قليل الحيلة في الواقع.
ولذا نكتشف، فجأة، وجعنا الإنساني، وضعفنا المرعب على مواجهة ذلك كله، فترانا نخاف من وحدتنا مع الألم. نخاف أن تتركنا الصورة وحيدين مع ألمها ونفوسنا، فنهرع جميعاً إلى مشاركة ألم الصورة مع الآخرين، لكي ننجو من وحدتنا معها، أو نروح نطلب بكل غضب وقف دهمنا بالصورة، ونحلل ما نراه، من غير أن نعي أن تكثيف استخدام الصورة يتعمد حشرنا في زنزانة الألم اليوم وإلى الأبد. وقد نلجأ إلى تحليلات سياسية، نتحايل بها على ألمنا ووحدتنا مع الألم حتى إن بعضهم شتم تلك المصورة التركية التي التقطت صورة الطفل السوري على شاطئ تركي، واتهمها تارة بالسادية، وتارة أخرى بالمازوخية.
ولو خرجنا من كل هذا التحليل للتفاعلات السيكولوجية التي نحسّها تجاه صورة الطفل الغريق، والتي بقيت، في معظمها، تفاعلات في داخل الفرد، قدمت تأويلات عن مدى العذاب الروحي الذي تركته عند كل واحد منا، وخصوصاً الآباء والأمهات الذين ربما يشعرون بالفاجعة أكثر من غيرهم، فهم في قرارة نفوسهم، وهذا أمر طبيعي، يُصدمون للمقارنة العفوية الخارجة عن سيطرتهم بين جثة هذا الطفل وأطفالهم، يتخيلون طفلاً من أطفالهم، وتتكثف معاناة ألمهم، وربما يخرج غضبهم ممزوجاً بالدموع، وقد يهاجمهم شعور طاغ بحماية أطفالهم، قد يصل إلى حالة مرضية، قد تدوم طويلاً.
ولكن، كم من هؤلاء الناس فكّر بأسباب موت هذا الطفل على الشاطئ، وقبله أطفالٌ في الغوطة. أطفال كثيرون ظهرت صورهم كأنها آتية من متحف الشمع جليدية، بسبب غاز السارين الذي استخدمه نظام الأسد. أطفال ماتوا في لحظةٍ، وهم يصارعون الهواء القاتل، كما مات الطفل على الشاطئ، يصارع الماء المتوحش، وظهروا في الصورة كأنهم في إغفاءة نوم هادئ، لا أثر لجرح سببته رصاصة، أو شظية صاروخ، أو سكين. هل سأل العالم المفجوع القتلة في طهران وموسكو وواشنطن وعواصم الغرب: لماذا يحافظون على القاتل في دمشق.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.