صور حية من يناير

28 يناير 2015
+ الخط -

بعد صلاة جمعة 28 يناير/كانون الثاني بقليل، تتجمع أعداد من المتظاهرين في شوارع إمبابة حسب الخطة الموضوعة من جبهة التنسيق، ولكن يتسبب انقطاع الاتصالات وتعذر التواصل بين المنظمين، تعجز المسيرات عن التجمع في الأماكن والمواعيد المحددة سلفا، حتى يظهر شاب يقود دراجة نارية لينصح المتظاهرين بالتوقف قليلا حتى تلحق بهم مسيرة أخرى، تتكرر تعليمات قادة الدراجات وتتزايد أعدادهم ليحيطوا بالمسيرة لتأمينها، واستكشاف خط السير والتواصل بين المسيرات حتى تتجمع الأعداد كلها وتنطلق إلى ميدان التحرير.

(2)

في صباح يوم 30 يناير/كانون الثاني 2011 يقرر عدد من النشطاء السياسيين خلق منبر داخل ميدان التحرير بإمكانيات لا تذكر، سماعتين ومايكروفون على "ترابيزة" صغيرة أمام كنتاكي، لا يتعدى مدى سمعها عشرات الأفراد المحيطين، يتناوب الشباب على حراستها والهتاف من خلالها ويتحلق من حولها أعداد من المتظاهرين، يوما بعد يوم تزداد الإمكانيات حتى تتحول "الترابيزة" إلى مسرح كبير أمام مجمع التحرير، والسماعتان إلى عشرين سماعة وعدد من "الهورنات" ومولد كهربائي لتكون إذاعة الثورة وصوت الشباب في ميدان التحرير، تقوم الإذاعة بدور تاريخي في تحفيز الجماهير ورد الشائعات وترابط الميدان وتأمينه أثناء هجوم بلطجية الدولة.

(3)

في إحدى ليالي الاعتصام بميدان التحرير والجو شديد البرودة، يجلس المعتصمون في حلقات تتوسطها شعلة نار كأنه مشهد تراثي من الريف المصري أو إحدى رحلات السفاري التي لا يشاهدها المصريون سوى في أفلام السينما، يدور النقاش في الحلقة بطبيعة الحال حول الوضع السياسي وتنبؤاتهم لليوم التالي والخطاب الرئاسي المقبل، بين حالات الاحباط والأمل والترقب يتحرك بين الحلقات اثنان من الشباب ليمثلوا اسكتشاً من بضع كلمات يرسم البهجة على وجوه الحاضرين دقائق ثم ينطلقون نحو الحلقة التي تليها ويخوض الحاضرون في حديث غيره، "محمد مينا ليه الدنيا جميلة وحلوة وانت معايا" كانت هذه الكلمات هي بداية الاسكتش الذي شاء القدر أن يستشهد بطله في حادثة ماسبيرو ليكون إحدى أيقونات الثورة "مينا دانيال".

(4)

وسط عتمة الليل وقذائف الحجارة والمولوتوف تتساقط فوق رؤوس المرابطين عند حدود الميدان من ناحية المتحف المصري، وقف بوجهه البشوش يضع قطعة من الورق الكرتوني فوق رأسه ربما تحميه قليلا، يحاول مجاراة الشباب المحيط بقذف الحجارة ووضع الحواجز، لا يسعفه سنه أو صحته في المراوغة، يعود إلى الخلف يستجمع أنفاسه ويساعد بعض الفتيات في تكسير الرخام ونقله إلى مواقع الاشتباكات، يتقرب إليه أحد الشباب والدم يسيل من رأسه "حضرتك أستاذ فلان؟".

(5)

تتشابك أيديهما في حنين إلى لقاءات انقطعت منذ اشتعال الثورة واعتصامه بالميدان واحتجازها داخل غرفتها أمام شاشات الجزيرة بحثا عن وجهه بين مئات الألوف من الوجوه التي تشابهت ملامحها، بالرغم من تعبه الجسدي، فإنه لم يفوت الفرصة الأولى السانحة للقاء صبيحة رحيل مبارك، يتجول معها في أطراف الميدان ودهاليز وسط البلد راويا ذكرياته مع كل حجر ملقى في الأرض وأثر احتراق وحاجز حديدي، يحاول أن يبث خلال أصابعه نشوة الانتصار وروح الأمل ومتعة التمرد، لأول مرة يشعر بأنه قادر على رفع رأسه أمامها بعد أن انتصر أخيرا في معركته واستكانت له الظروف. يتوقف ويمسك بكلتا يديها وكأنه يحتضن العالم "مفيش حاجة هتبعدنا عن بعض تاني أبدا"

تلمع عيناها وتقترب منه أكثر "يعني أخيرا هتيجي تخطبني من بابا".


*مصر

المساهمون