ضرب مؤيدي فلسطين في الغرب
ثمة قضية تستحق التوقف عندها، والمذهل أحيانا أن يكون المتوقف غربيا، ممن أفنوا أعمارهم في الدفاع عن قضايا العرب وفلسطين، مستدعيا بألم مقاربات عن التطورات التي أماط عنها لثام المستور، مآزق سياسات الحكم العربي، ودور المثقفين والنخب الجبانة والانتهازية في المجتمعات، من المحيط إلى الخليج.
ففي حين كانت متغيرات العقدين الماضيين تبشر بمواقع مختلفة للقضية الفلسطينية، حيث دفع ويدفع مثقفون وحقوقيون ونشطاء وساسة في الغرب أثمان السير في طريق ترسيخ فكرة مقاطعة دولة الاحتلال، على صعد مختلفة، من الاستهلاكية العادية إلى الأكاديمية، والثقافية والرياضية، تكشف الوقائع والتطورات العربية، وبشكل أخص عقب افتعال الأزمة مع قطر، عن حجم وعمق انخراط بعض العرب في التصهين، فكرا ووسيلة.
محاولات نشطاء وحقوقيين غربيين استصدار مذكرات توقيف لملاحقة مجرمي حرب صهاينة، في عدد من الدول الأوروبية، ورفض مشاركة دولة الاحتلال في أنشطة رياضية وفنية وثقافية، واحتجاج أكاديمي متزايد، يقابلها اليوم تهافت أنظمة عربية، ونخب زائفة الدور والمكانة، نحو إعلان غير مسبوق لجعل المجرم من أهل المنطقة وأصحاب الحق "إرهابيين" ليس إلا.
وفي الوقت الذي يرفض فيه أكاديميون ومثقفون غربيون إضفاء شرعية على تشكل دولة الأبرتهايد، داعين بكل اقتناع إلى مقاطعتها بكل السبل، ترى بعض العرب يتفاخر، في مشهد فضائحي دوني بفتح أبوابه، مندفعا لتشريع من اعتبر مجرما محتلا في الأمس، ليصبح عملا محمودا اليوم. ولا يكفي التذكير بما قامت به البحرين مؤخرا، فهذه السلسلة طويلة وباتت مكشوفة للجميع. اللقاء الذي جمع السيسي بنتنياهو ليس بعيدا عن مقاربة اللقاء بمحمود عباس، وخطابه في الأمم المتحدة عن "الوقوف معكم" ليس سوى الوجه الحقيقي لما ظل مغيبا.
ولعل أكثر الفرحين بهذه الاكتشافات العلنية هم اللوبيات الصهيونية التي تواجه عرب الغرب ونشطاء الغرب والأكاديميين المتفهمين للقضية الفلسطينية أكثر من السابق. إن تسويق تهمة "معاداة السامية"، وبعضهم ذهب للتوقيع على بيان لا داعي له، تعني أننا نعود إلى نقطة الصفر ثانية. اليوم، من يتابع صحف ومواقع التأثير الصهيوني لن يُفاجأ بعودة خطاب صهاينة الستينيات والسبعينيات: "هناك عشرون دولة عربية، لماذا لا يرحل الفلسطينيون إليها... ليس لدى الفلسطينيين حقوق، وانظروا إلى العرب إنهم لا يقفون معهم". هذا عدا عن عودة التسميات التوراتية لتقتحم مسميات القدس والضفة الغربية في مواقع التأييد اليميني المسيحي المتطرف لدولة الاحتلال وملاحقة كل من يتفوه بنقد لها بحجة "معاداة السامية".
نعم، لما لا يتشجع هؤلاء وهم يرون عربا يعزفون النشيد الصهيوني، الذي ارتكبت تحته أفظع المذابح، وتدمير مدن وقرى، والتهجير والطرد بحق الفلسطينيين.
وسواء كنا نتحدث عن تصنيفات الزمن السابق لأنظمة "التقدمية" و"الرجعية" فنحن أمام انكشاف زيف ادعاءاتها لتسويق غياب الديمقراطية والحقوق والمواطنة وانتشار الأمية ونكوص مشاريع التنمية باسم "القضية"، واستخدام فلسطين كشماعة لكل تفصيل التراجع العربي، أو عن تلك النخب التي تشبه من يخرج على قنوات مصرية، من قوميين عرب ويساريين وليبراليين، ليؤيدوا الانفصام في تملق الأنظمة من زاوية التطبيع، كما فعل للأسف مصطفى بكري، فنحن أمام أخطر انعطافة تشهدها القضية الفلسطينية في محيط عربي يراد له أن يقتنع بخطاب "ونحن ما لنا بهذه القضية؟".
بكري ثارت ثائرته ذات يوم على خدش صورة مبارك في الضفة الغربية، وهو المدعي معارضته له، كما ظهرت حالة التلون والنفاق لدى طبقة مثقفي "الحرية والعدالة الاجتماعية"، الذين لاذوا جبنا وأرنبة في دعم انتشار الفاشية الحاكمة هنا وهناك، لاعقين أحذية العسكر وشعارات الأمس مرددين بكل وقاحة "الإنسان العربي لا تليق به الحرية والديمقراطية"... أو على الأقل يكررون على مسامعك "ذلك ليس ربيعا بل خريفا... لأنها ثورات لم يقدها المثقفون"، وهم بكل وقاحة يتغافلون عن دورهم حين سوقوا أنفسهم/ سُوقوا لنا كـ"مثقفيـ"نا" العظماء.
بل حتى هؤلاء الذين تراهم اليوم يبررون في القاهرة هذا الانبطاح أمام الصهيوني استرزقوا بالأمس بتسويق كتيباتهم عن "العنصرية الإسرائيلية" ومعارضة التطبيع،أعمتهم مناصب التصفيق "البرلماني" وجعلتهم يدخلون في كوما الأخلاق التي بشروا بها بالأمس.
أكثر مشهد انبطاحي نظامي مؤلم، هو أن يساق المثقف العربي الرافض لهذا الهوان إلى حتفه باسم الواقعية، ويرفع من شأن أرذل ما أنتجه التخلف ليصير هو المثقف المراهن عليه تزويرا.