تقول مارينا اغمضي عينيك
فأرى ظلمة ثم بياضاً.
نقطة سوداء، ثم طيراً
يحطّ
على سلكٍ مشعٍّ. ينظر إليّ -
مثل نوع من إلهٍ صغير-
ضعيف، ومجروح على الأرجح.
أشعرُ بمارينا تمرّ حتى وعيناي
مغمضتان، كما لو أنني عشتُ حياتين:
واحدة مع مارينا أبراموفتش،
مشياً بالقدمين أو ساكنة،
حسب كلماتها.
أو أنها لا تقول شيئاً. وحياة أخرى
مع طير واحدٍ فقط.
الاثنتان، وإحداهما مغلقة،
خارج جسدي، أسير
وأواجه طائر الشحرور.
صبيّ أم فتاة؟ جلبتُ مظلّة
ولكنها لا تمطر في لندن.
مطر الشمس – أشعة ضوء وخطوط –
حيث يجثم الشحرور،
مفكّراً بي بوصفي طيراً أيضاً،
في الضوء. أجلس في ظلّي، أتابع طيرانه،
منحنى الطيران،
حيث يحطّ: وطني الجديد.
وأنا أسير بحيويّة، جسداً وفكراً،
أسمع مارينا من بعيد عبر
الفضاء. صوتها رجفة كمنجة كبيرة.
هي، بلباسها الأسود
وحذائها، طيرٌ. خارج جسدي الآن، والليل
حولي، أُمثّل دور طير.
أجلس وأواجه فضاءً، يصبح التربة
تحت قدميّ. تخرج مني شجرة،
تنمو، ترتفع
والطير تحتها. أغصاني تتحرّك وذراعاي -
أحاول السقوط - أفشل.
لمجرد أن أطير
ألستُ شحروراً. على المرء
أن يطير منحدراً.
أخفض جسدي، أحاول، وأحطّ
في أناي الطير،
اعتدتُ القول إنني كنتُ
طيراً، مع أنني لم أعرف
ما كان يعنيه هذا، وأرفرف الآن
بجناحين مما قبل التاريخ.
أعلو. خارج جسدي، أقذف بالليل
إلى يساري. خارج
جسدي، أرمي بالضوءَ
إلى يميني. أعلو. جسدي، شجرة، ينشطر.
حين تنمو شجرة، تنمو
الذات الحقيقية يساراً.
ما هو يمينٌ
زائف. هل الخشب من زوجين؟ لا.. وحيدة تنمو الأشجار،
مع أن بعض الأشجار يودّ
أن يصبح فَرَاشات.
أن تصبح فراشة، معناه أن تمتلك شجرتين
ترفرفان نحو موتٍ واحد.
يشغلني موتي
أنا، لأنه عندئذ فقط
سأخرج من شرنقتي
عندئذ فقط
سأكون واحدة، مثل طائر الفينيق:
امرأة ورجل في جسد واحد.
أنا فراـــ شة. أنا فينـ ـــ يق
كان طائر الشحرور شحـ ــ رور،
وهو الآن شحرور.
وأنا شحرور، أنا فراشة.
ولكن مارينا تقول، كوني ذاتك أيتها الإوزة الصغيرة.
ولهذا أسبح/أطير.
ولكن حين أسبح/أطير تأخذ السماءُ جسدي. وأظلّ
بذاتي في الماء.
ملحوظات الترجمة
* في اللغة الصينية مئات الكلمات ذات المقاطع اللغوية الصغرى المزدوجة، وهي ذات سمات متماثلة تقريباً. وتأتي هذه المقاطع معاً دائماَ، مثل فراشة، وردة، عنب، نملة، خفاش، على سبيل المثال. هذه المقاطع قديمة إلا أنها تستخدم في الزمن الراهن أيضاً. ويدل بعضها على الجنس، مثل كلمة "الفينيق" التي يحتوي رسمها على رمزين، أنثوي وذكري. أما كلمة الشجرة فتتكون من مقطع لغوي صغير واحد، ولكن حين تنشطر، فسيعني الشطران كلمة "خشب" وكلمة "زوج" على التوالي. وحين تنشطر كلمة "إوزة" المكونة من مقطع لغوي صغير واحد أيضاً، سيكون شطرها الأيسر كلمة "أنا"، وشطرها الأيمن كلمة "طير".
** تتكون كلمة "طائر الشحرور" في الإنكليزية Blackbird من لون أسود Black وطائر Bird ، وما تعنيه الشاعرة هنا هو أن جزأي الكلمة حين يجتمعان يكوّنان كلمة "شحرور"، بعد أن كانا طائراً ولوناً. ويصعب في الترجمة العربية بيان هذه التورية الشعرية التي كانت في الصينية أولا، ثم حالف التوفيق المترجم في إيجاد مكافئ لها في الإنكليزية. وكذاك الأمر مع كلمة "فراشة" في الصينية التي إذا انشطرت تعني "أنا" في أحد شطريها، وكذلك كلمة "الفينيق".
*** مارينا أبراموفتش (1946)، فنانة صربية تعيش في نيويورك، عماد فنها أداء عروض حية تستكشف فيها العلاقة المباشرة بين من يبدع عملا فنياً والجمهور، ومع أن هذا الشكل الفني الجديد يتجسد في أعمال تشكيلية أو قراءات شعرية ومسرحية، إلا أنها تؤدي أعمالاً شبه درامية تختبر بها قدرات الجسد والذهن البشري على التحمل عبر مواقف تجمع بين الأداء الواقعي لمواقف وأوضاع وبين الأداء التمثيلي. وتعتبر مارينا الآن جَدّة فن أداء من هذا النوع، ورائدة لفكرة جديدة عن كينونة الإنسان تشرك فيها المشاهدين، وتركز على مواجهة الأوضاع المؤلمة والدموية، وحدود الجسد المادية.
**** مينغ دي (Miing Di) هو الاسم الأدبي للشاعرة الصينية مندي شانغ التي ولدت ونشأت في الصين، وتعيش حالياً في مدينة لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية. نشرت ست مجموعات شعرية باللغة الصينية، وأربع مجموعات بلغات أخرى، إلى جانب ترجمتها وتحريرها أربعة كتب مختارات من الشعر الصيني إلى الإنكليزية. من بين أعمالها "زوجة تاجر نهري" بالإنكليزية، و"قصة عائلة" بالفرنسية.
** ترجمة عن الإنكليزية: محمد الأسعد