طريق اللؤلؤ

09 فبراير 2015
محمد المزروعي، بلا عنوان
+ الخط -
في روايته الأخيرة "الشراع المقدّس" اختار الروائي القطري عبد العزيز آل محمود فترة زمنية، يُقال إنها غامضة في تاريخ بحر العرب، أو الخليج العربي كما يسمّى اليوم؛ أواخر القرن الخامس عشر، حين قام البرتغاليون بغزو مياه هذا البحر الذي مثّل لسكان شواطئه، طريقة حياة. مدّ البرتغاليون سفنهم في المياة الزرقاء، طمعًا بالتوابل والمطيّبات، ورغبةً في السيطرة على هذه الرقعة الجغرافية، التي فيها وُلد أحد أهمّ الملاحين العرب قاطبةً؛ أحمد بن ماجد أو "أسد البحار" كما لُقب. من الصعب حصر مآثر ابن ماجد وأفضاله في تأسيس علم البحار، أو علم الملاحة، فهذا العلم وُلد عربيًا على يديه. ألّف ابن بلاد الشمس الحارقة والرّمل والمياه، ما يربو على أربعين مؤلّفًا جلّها في علم الملاحة، ورسم خرائط كثيرة، وابتكر أدوات ملاحية من أهمّها "البوصلة البحرية"، حيث ثبّت الإبرة المغناطيسية على "وردة الرياح". للناظِر في رسوم بوصلة ابن ماجد ووردة الرياح والإسطرلاب، أن يرى كيف كان العرب القدامى يقرأون البحر من خلال السماء، فالنجوم المتلألئة في ليل بحر العرب، كانت علامات لطرقهم البحرية، عرفوها وعرفوا مطلعها ومغيبها فسمّوا ذلك "منازل". ولا يخفي تعبير "قراءة البحر من خلال السماء" استعارةً شعرية، لكنّه بطريقة ما يأخذنا إلى الشّعر، فابن ماجد كان "شاعرًا"، إن قبلنا أن الشّعر طريقة حياة في تلك الرقعة الجغرافية ذات الزوايا الناتئة والأخوار والخلجان. فما وصلنا من أراجيزه، لم يكن بالعربية الفصحى، بل بمحكيةٍ أقرب إلى الشّعر النبطي، وكان موضوعها دائمًا كيفية الإبحار من مكان إلى آخر اهتداءً بالنجوم. إذ كان على البحّار العربي في ذلك الزمان، أن يتزوّد بكلّ عُدّة الإبحار وأدواته، وفوقها يحفظ عن ظهر قلب قصيدة بالمحكية، كي تفتح أمامه الدرب المائي الممتدّ حتى الأفق، فيصل إلى غايته آمنًا. 
ما زال البحر والشّعر، يمثّلان طريقة حياة في تلك المنطقة، وبينهما اندثرت إلى حدّ كبير مهنة الغوص في الأزرق لاستخراج الأبيض؛ صيد اللؤلؤ. تلك المهنة التي وسمت إلى حدّ كبير طباع أهل ذاك المكان، إذ كانوا يمضون جلّ أيامهم في رحلات بحرية طويلة تتطلّب الصبر والإصرار لاستخراج الدرّ الفريد. كما وسمت طريقتهم في البناء، فبيت "النوخذة" أي صيّاد اللؤلؤ، ذو جدر سميكة، تعمل كمكيّف للجوّ الصحراوي القاسي، وله نوافذ صغيرة، وفيه أدوات لقياس حجم اللؤلؤ ووزنه. 
اندثرت تلك المهنة، واندثرت معها تلك البيوت الصغيرة. فمع النهضة العمرانية الكبيرة والمستمرّة التي عرفتها تلك البلاد منذ الاستثمار في النفط، غدتْ الأبراج الشاهقة سيدةً في المكان. وقد يصلح التناقض بين البرج العالي وبيت النوخذة، كحكاية رمزية أو أمثولة (Allégorie)، تبطن الصراع المكتوم بين الأصالة والحداثة الذي يعتمل في نفوس أهل البحر العربي، ويظهر بأشكال عديدة، من بينها العلاقة بالشّعر. فالشّعر هو المعبّر الأوّل عن الهويّة أفرديةً كانتْ أم جمعية، إذ هو نشيد "الأنا" سواء أضاقت أم اتسعت. 
ما زال المكان البحري الرملي، إن جاز الوصفُ، مخلصًا لماضيه، فالشعر النبطي سائدٌ هناك بطريقة مبهرة، له مجالسه وأمسياته وعشّاقه. بيد أن أسئلة الحداثة الشعرية العربية ورهاناتها، تسلّلت بإصرار وعلى مهلٍ إلى القصيدة الخليجية والإماراتية الحديثة، التي مرّت خلال فترة وجيزة، أقلّ من نصف قرن، بتحوّلات من ناحية الشكل والتقنية واللغة والنبرة. وكانت تلك التحوّلات في الغالب أمينةً لنظيرتها في الشعر العربي الحديث، الذي غدا شئنا أم أبينا "الشعر الرسمي العربي". مع ذلك نجح شعراء تلك البلاد في بثّ نظرتهم إلى المكان في القصائد. ذلك لأن التغيير الكبير الذي حدث في المشهد، حتّم العودة إلى الماضي القريب، فطغى موضوع الحنين والذكريات على طائفة لا بأس بها من القصائد الإماراتية. 
الاختلاف في المشهد، ووجود "سكّان" من جنسيّات مغايرة في المكان، طبع إلى حدّ كبير الشعر هناك، لذا تبدو بعض المقاطع الشعريّة تلقائية وعفوية، يقول الشاعر جمال علي :" بين أضْرِحَةٍ إسْمَنْتيةٍ/ قاسِيةٍ/ تُمزِّقُ الضَّبابَ/ مُتآمِرَةً/ تَتَطاوَلُ عالياً/ وَتطْعَنُ السَّماء بِقرونِها". ولا يحتاج النقد إلى حذق أو ذكاء ليرى انعكاس تغيير المكان مرسومًا بدقّة في هذه القصيدة. لكن المعضلة، أن هذا القول الشعري سهلٌ لا تحفّ به أسئلة الحداثة الجوهرية. إذ من شأن الحنين إلى الماضي، وانتقاد تغيير المشهد، أن يبطنا رفضًا للحداثة بما هي نظرة وطريقة وممارسة قبل أي شيء. 
التغيير تمّ والأبراج الشاهقة موجودة، وإن كانت تبدو في عين شاعر اليوم، أو الأمس القريب، "طارئة" وغير أصيلة أو أمينة لتاريخه وتراثه، فإنها في عين الشاعر الذي يولد اليوم، تؤلّف المشهد ومن خلاله الهويّة. بالابتعاد عن سهل الكلام وما هو متوّقع، قد ينجح شعر المكان البحري الرملي، برسم صورة تناسب الواقع المعقّد، والزاخر بألف موضوع وموضوع، ليست كلّها صالحة في الشعر طبعًا، لكن مهمّة الشاعر اليوم أن يتمثّل سلفه النوخذة، ليصير "صيّاد اللؤلؤ".

 
المساهمون