ليس لي أن أعرف أثاث بيتك يا غونتر غراس، أتلصص على صورك التي تحمل وجهك وشاربيك الكثّين وفمك مطبق على الغليون، لكن لا بدّ للمكتبة أن تكون خلفك إذا ما كانت الصورة مأخوذة لك في بيتك، هي ملاكك الحارس كما لن يخفى على أحد، وهي متواجدة لتبقى ولا تفارق، فالمكتبة للاستقرار وضدّ قصيدتك "كراسٍ قابلة للطيّ" وأنت تقول فيها "أي نوع من الأثاث هذا الذي يعلن عن الرحيل؟/ يأخذ الناس كراسيهم القابلة للطي/ ويهاجرون".
لم أقع على ذلك الكرسي في صورة، وعدا تلك القصيدة ما كان له من ذكر، وها أنت ترحل فجأة نحو عالم آخر لن يصلنا ما تكتبه عنه! أعرف أنك وصلت السابعة والثمانين وهذا كثير، "فلفظت أنفاسك الأخيرة التي لابد أن يلفظها كل إنسان في آخر المطاف، ليُمنح بعدها شهادة الوفاة" كما كتبت حين وفاة أم أوسكار في "الطبل الصفيح".
لكن هذا لاشيء أمام انعدام قدرتك على كتابة الروايات كما قلت منذ ما يقرب العام "ما عاد في مقدوري تمضية سبع سنوات في كتابة رواية"، وهذا على الأرجح ما دفعك لتأخذك كرسيك وتمضي، ولسان حالك يقول: وما الذي سأفعله إن لم أكتب روايات جديدة؟ هل سأصنع الفزاعات التي "خلقت على صورة الإنسان" كما كان أمزل يفعل في "سنوات الكلاب".
لا بدّ أن هذا العالم مترع بالفظاعات، هذا ما أثبتّه بمنتهى الجمال والأصالة، ومفارقته بعد معاينته لما يقرب القرن وقد قُتل من قُتل وشرّد من شرّد أمر لا بد منه، بعد حرب عالمية أولى وثانية، والنازية لا تتوارى ولا تختفي، والحروب مندلعات إلى ما لا نهاية، ومن يصنعونها لا يموتون كما مات المسكين ماتسرات مختنقاً بشعار حزبه.
كل ذلك لم يجد نفعاً، بما في ذلك صمتك الطويل وقولك بعدئذٍ إن "قوة إسرائيل النووية تهدد السلام العالمي الهشّ أصلاً"، فهذا العالم تماماً كما رأس الحصان المحشو بسمك الحنكليس، هذا الرأس الذي غادرت أم أوسكار الحياة من أجل ألا تقع عليه مجدداً، انتحرت بالتهام أعدد هائلة من الأسماك، بينما التهمت أنت هذه الحياة بكل ما فيها من جمال وفظاعات حتى آخر رمق.
من الحصافة الإيمان بأن "الرغبة بالعبث والدقة المتناهية أمران لا تناقض بينهما"، وهذه الخلاصة مفتاح لمملكتك السردية، معبر حصيف لجيل الحرب، وأجيال حروب أخرى كثيرة لن تعرف عنها شيئاً، العبث خلاص أمام الأهوال، لكن يجب التحلي بالدقة للنجاة، والدقة في صياغة كل ذلك ليكون على اتساق تام مع عبث الحياة وخلود الحكايا.
وها هي تفاحة آدم في عنق "مالكه" تطفو في "قط وفأر" والقط لا يتوقف عن ملاحقتها باعتبارها فأراً، "مالكه" الفاتن والقوي الذي سيقضي ممزقاً في دبابة في النهاية. إنها روايات وقصص محمّلة بعوالم وانعطافات وخفايا تدفع للإيمان بالإعجاز المجازي والسردي، وهي لا تستسلم للقارئ من أول قراءة، وما أن تتفتح أمامه عوالمها حتى يعاود قراءتها مرة ومراراً، يقرأها ضاحكاً وعاقد الحاجبين في آن معاً.
يستوجب الحزن على غونتر غراس امتلاك صوت مثل الذي لدى أوسكار، يكون كفيلاً بتكسير الزجاج القائم بين البشر والعالم، وفتح أبواب السرد الروائي على مصراعيه في محاكاة له، وعدم الإفراط في استخدام الطبل والتطبيل وإن على طبل من الصفيح، بل التعلم من أوسكار متى يقرع الأدب على طبله ليرجّف التاريخ، ويضبطه متلبساً بينما "الشمس لا تكف عن الغروب".