قهرتهن ظروف الحياة الاجتماعية، فشمّرن عن سواعدهن لكسب قوت يومهن، أناملهن المتورمة تكاد لا تخطئها العين، حركتهن لا تتوقف وهن يتلقفن كل أنواع السيارات المارة في الشارع ولسان حالهن يردد: "خدامة أسيدي... خدامة ألالة".
معاناتهن اليومية مع مكر "المُشغل" لا تنتهي، يروين في ذلك قصصا ومآسي تدمي القلب، إنهن "عاملات الموقف"، أرامل، مطلقات، أمهات عازبات، يتقاذفهن الفضاء نفسه ويشتركن في ألم العمل لساعات طويلة بقليل من الأجر وكثير من المهانة.
وفي ساحة عمومية بحي "السيال"، أحد أرقى الأحياء في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، اتخذت مجموعة من النساء مكانها في انتظار أن تلوح فرصة عمل لتقديم خدمات منزلية، من قبيل التنظيف والطبخ وترتيب البيت، مقابل أجر يخضع لمزاجية طالب الخدمة.
الزاهية، (45 سنة)، أمية، قادمة من إحدى قرى المغرب، اشتغلت مساعدة في إحدى البيوت من أجل إعالة أسرتها وإخوتها، لكن تعرضها للاغتصاب على يد أحد أفراد الأسرة جعلها تفر من الاستقرار عند العائلات، وتبحث عن عمل يومي يخول لها العودة مساء إلى الغرفة التي تكتريها في أحد الأحياء الفقيرة.
ولجأت الزاهية إلى "الموقف" لعرض الخدمة الوحيدة التي تجيدها في غياب أي صنعة أو شهادة تعليمية تغنيها عن دراهم مغموسة بالذل، تقول: "قضيت في الموقف ما يزيد عن 14 سنة، فيه رأيت العجب، وتذوقت أصناف العذاب والمعاناة، سواء من طرف المشغّلات اللائي يستغلن وضعنا الاجتماعي المتدني أو من طرف بعض رجال الأمن الذين يطردوننا".
وتتحدث الزاهية عن ظروف عملها المضني في الموقف قائلة: "أقصد الموقف يوميا من الساعة السادسة صباحا إلى غاية الرابعة زوالا، طمعا في زبون يطلبني للعمل في منزله".
وتضيف: "الأجرة غير مستقرة وتخضع لمزاجية المشغل وتبدأ من 70 درهما وتصل في أحسن الأحوال إلى 200 درهم في اليوم".
وهو الرأي الذي تشاطرها إياها مريم (33 عاما)، أم عازبة، اضطرت إلى العمل لإعالة توأميهما ودفع تكاليف حضانتهما، تؤكد أن النظرة الدونية لـ"عاملة الموقف" ما زالت مستمرة، من الشارع وحتى من الزبائن الذين يتخيلون أن عاملة الموقف تقدم كل ما يطلب منها مقابل المال.
وقالت وقد انتفضت غضبا: "بالله عليك، هل هذا شكل واحدة تبحث عن شيء آخر عوض لقمة العيش؟ وهل هذا مكان المتعة؟ لماذا كل هذا الظلم والقسوة من الناس؟".
مريم لم تخف رغبتها في أن تتوقف كل الإهانات التي تطالهن في هذه المهنة التي تغيب فيها كل الضمانات الإنسانية، حيث وجهت ندائها إلى الجمعيات النسائية والحقوقية للاهتمام بهذه الفئة والدفاع عن كرامتهن، وأيضا خلق مراكز وجمعيات لإيواء عاملات الموقف والدفع بهن إلى تعلم حرفة تطور مسارهن.
بدورها فاطمة صفعتها الحياة باليتم مبكرا لتجد نفسها وجها لوجه في الشارع بعد أن طردتها زوجة الأب، إنها المرأة الحديدية، كما تلقبها صديقاتها، تتمتع ببنية جسمانية قوية أهّلتها لأن تكون أكثر طلبا لقدرتها على تحمّل مشقة التنظيف والكنس وكل الخدمات المنزلية.
وتقول: "نبذل جهدا عضليا كبيرا في ما يشبه الأشغال الشاقة، لكننا كثيرا ما نفاجأ بمبلغ زهيد نظير ما نقوم به من عمل، أو تطاول ورغبة في الاستغلال من بعض المشغلين.
وتضيف في ما يشبه العتاب: "هؤلاء الذين يحاسبوننا ويكيلون لنا التهم الرخيصة هل سألونا عن أحوالنا، عن كسوة أبنائنا وتطبيبهم وتمدرسهم، عن إحساس العجز أمام مطالب الأبناء الكثيرة والجيوب الفارغة؟".
عبد الرحيم الزعيم، الباحث في علم الاجتماع، أوضح في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن النساء العاملات في هذا المجال يجدن أنفسهن بين مطرقة الفقر والأمية وسندان الاتهامات الجاهزة لهن بممارسة الدعارة المقنعة واحتلال الملك العمومي عبر التجمع في "الموقف"، مشيرا إلى أنهن يقضين ساعات طويلة من العمل بأجور زهيدة، وفي بعض الأحيان يفتعل المشغل بعض الحجج ويلصق تهما كالسرقة بالعاملة، ولا يدفع لها مستحقات يومها، فيضيع جهدها اليومي هباء.
كما تطرق إلى التهميش الممنهج الذي يطاول هذه الشريحة من النساء، داعيا إلى تعزيز الترسانة القانونية لتأطير عملهن وضمان حقوقهن المهنية والاجتماعية، وكذا التدخل لتعبئة المجتمع وتوعيته بقضايا النساء في وضعية صعبة، من قبيل إحداث مركز للخدمات والتكوين خاص بهن، وتخصيص حضانة لأطفالهن تُعنى بالاهتمام بهم أثناء غياب أمهاتهم للعمل، وإخضاع النساء للتكوين في عدة مجالات لعل بارقة الأمل تغيّر حياة نسوة يرتمين يوميا في دوامة الخدمة تحت الطلب دون ضمانات.