عبد الباسط الساروت... في رثاء الرثاء!

09 يونيو 2019
+ الخط -
الساروت

منذ أن اعتلى منصة المظاهرات وغنى للثورة في بزوغ فجرها الأول، كان يعلم ويدرك بأنه ماض نحو هدف سام، هدف متعال، وهدف مترفع فوق ما هو أرضي ومحسوس ومادي، الانتصار للحرية، أو الشهادة، الفداء، والرحيل في سبيل هذه الحرية. هناك حيث الأبد الذي لا ينتهي، هناك في الانعتاق.

وها هو قد سافر نحو أبديتهِ، إنها أبدية عبد الباسط الساروت الذي هزم الهزيمة، والذي صدع بغنائه وبحة صوتهِ أسوار الحصار وجبروت الطاغية.

حارس الكرامة

منذ البداية اقترن اسمه بالكرامة، كلاعب كرة قدم في نادي الكرامة الحمصي العريق، شغل فيه مركز حارس المرمى، وكان قدره أن يذهب مع الكرامة بعيدا، أن يبقى معها إلى آخر الأنفاس التي صعدت من صدره المثخن بجراحها ونزيفها.


الكرامة التي قرر أن يتصدى بوصفه حارساً استثنائياً، قرر التصدي لكل من يحاول المساس بها، وهنا أخذت الكرامة معنى آخر أكثر شمولا وأكثر عمقا، وهي كرامة الشعب السوري الذي ثار في وجه الظلم ومن رحم هذه الثورة ولد الساروت من جديد.

جنة جنة جنة .. جنة يا وطنا

قبل الثورة ترددت هذه الأغنية على ألسنة الكثير من المطربين من فلسطينيين وعراقيين، ولم يكن أحد يعرف من هو صاحبها الأصلي إلى أن اندلعت الثورة السورية وسمعنا جنة جنة بصوت الساروت.

لم يكن الساروت مغنياً محترفاً، لكنه عرف كيف يجعل ذلك الصوت البدوي يسكننا جميعاً، وعرف كيف يجعل "جنة جنة" أغنيته هو، ولا ينازعه في حقوق ملكيتها أحد، إنها جنة الساروت الأبدية.

حصار الحصار

لم يكتفِ الساروت بالأغنية وإن كان لا يود أن يلجأ لغيرها، ولكن جسامة الحدث وفداحة ما حصل أخذت الساروت إلى البندقية، لقد أخذه النزيف كما أخذ كثيرين غيره إلى السلاح.

الساروت الذي فقد جميع إخوته على مذبح استرداد الكرامة، وعلى مذبح الصمود بوجه التحولات والمغريات. ضحى الساروت بكل شيء في سبيل انتصار روحه الحرة، روحهِ التي لم تتلوث، وبقيت نقية ساطعة كشمس لا تغيب.

تعرض الساروت ورفاقه لحصار خانق فرضته قوات النظام بين عامي 2013 و2014، وصمدوا بوجه القصف اليومي، صمدوا بوجه الدبابات والطائرات، صمدوا كأسطورة بوجه النار، فحاصروا حصارهم، إذ لا مفر، لا الماء عندهم ولا الدواء ولا الهواء. صمدوا كما صمدت حمص رغم كل جراحها ونزيفها، وفي نهاية المطاف خرجوا مرفوعي الرؤوس في صفقةٍ مع طاغية مهزوم كان الجوع والعطش سلاحه الأخير، لكنهم خرجوا منتصرين.

باق على العهد

لم تنتهِ ثورة الساروت بعد الخروج من حمص، فأخذ كتاب ثورته بقوة ومضى نحو جبهات جديدة، معتليا صهوة الشمس، متسلحا بيقين مثابر، وإيمان راسخ بالتضحية في سبيل الحرية والكرامة، ولا شيء سوا ذلك..

وفي عز المعمعة، كان لبعض الأصوات النشاز أن تخرج من هنا وهناك، فاتهموه بالتطرف، ومبايعة التنظيمات المتشددة، ولكن الساروت كان أشد وضوحًا من زوابع المرجفين، وكان سدا بوجه الأصوليات، ولم يبايع إلا الثورة، ثورة الأيام الأولى والشهور الأولى، ثورة الأغاني والأهازيج والنقاء هي التي حملها الساروت على أكتافه وفي صدره وقلبه العامر بمحبة لا تنضب.

الصعود

كان الرحيل هاجسه وجوهره النبيل، الرحيل إلى الحرية، الرحيل إلى الانعتاق وفي النهاية الرحيل في أبدية الرمز الذي وصل شعاعه إلى نهايات المدى. لقد غنى الساروت للثورة وللشعب وللإنسان، غنى لنا جميعا، ثم قاتل من أجلنا جميعا، وحمل نعشه على كتفيه.. وفي لحظةٍ كان ينتظرها ويعرفها صعد أخيرا إلى سمائه البيضاء، على سلم الفجر، صعد وقد أسلمت روحه إلى المجد والخلود.

رثاء الرثاء

اليوم نلتف حول موتك، نصغي لصوت رحيلك، كما كنا نصغي لصوت غنائك، نلتف حول غيابك كما التففنا حول حضورك، فقُل لنا أيها الساروت، كيف نرثيك، وأي المراثي يمكنها أن ترقى لمنزلتك؟

الساروت هو أغنيتنا الأولى، وصوت ثورتنا الأولى، الساروت هو البدايات النقية، وهو الشهداء والمعتقلون، الساروت هو ما تبقى من اليقين بحتمية انتصار هذه الثورة ولو بعد حين.. بمدامعنا وغصصنا نقول لك: وداعا يا حارسنا الأمين.
0C41CFCE-A729-4BA7-8C5B-695A7B366ED3
محمد نور الدين اللباد

مدون سوري.. حاصل على إجازة في العلاقات الدولية.أؤمن بحرية الإنسان والسعي نحو بناء دولة مدنية يسودها العدل والمساواة، وتقف من الجميع على مسافة واحدة.