قبل عقدين أو أقلّ قليلاً، وفي مدينة عربية متجهمة أكثر من اللازم، قيّض لي أن أحضر لأول مرة أمسية شعرية لعبّاس بيضون. تسرّب إليّ انطباع عجيب ما إن بدأ بالقراءة.
بدت القصائد -وإلى حد ما طريقته في قراءتها- كأنما هي هزلٌ وتضخيم كاريكتيري لـ"الشعر" كما كنت "أعرفه" وقتها؛ تهديم متلذذ للمواضعات الشعرية وحتى لجماليات قصيدة النثر (جماليات كلمة لا يجوز استعمالها مع شاعر مثله). ثمة طبقة من الكوميديا تبطّن أكثر قصائده درامية.
بدا لي شاعراً مهرطقاً حتى قبل أن تحضر الكلمة، وفي الحال تفاعل شعوران متناقضان (أو ربما متكاملان) هما الاستنكار والافتتان. مع الزمن يتلاشى الأول ويتضاعف الثاني، ويظلّ يتضاعف. وهو افتتان لا يمكن تصريفه، فعبّاس بيضون لا يمكن أن يكون نموذجاً ولا يمكن حشره في كرسيّ "رائدٍ"، ولو أعطي سبّورة المعلّم ونياشينه فإنه سيضيعها عند أول منعطف وينسى أمرها. فقط يمكنك أن تحبّه.
في السياسة، بدا لي "متحرراً" مما يحرق وعينا الجماعي. لكني كنت أشعر أن فردانيته وهرطقته - التي تجعله من هو في الشعر العربي- تصبّان حتماً في ضمير الجماعة ومستقبلها، وقبل كل شيء في لغتها الشعرية المدينة بأكثر مما تظن لهرطقاته.