قد تكون العدالة من المهام الحصرية للقضاء، غير أنه كان للتاريخ الفضل في إنصاف شهداء الفكر والدين والعلم. هكذا، أدرجت العدالة في عداد الخالدين هؤلاء الذين قدموا تضحياتهم على أعواد المشانق، وفي المحارق، وعلى النطع.
حكاية الإنسانية لم تكن سارة غالباً، إذ رافقتها صنوف من الوحشية. ولا نستغرب أن يسهم الأدب في مسألة العدالة. سجّل القانون إخفاقات صاخبة، بسبب القائمين عليه. أما الكلمة، وإن من دون قوة ملزمة، فقد سجّلت مواقف مشرفة لا يجوز إزاءها الصمت. لكن ذلك لم يكن بلا ثمن، إذ كانت الكلمة مكلفة، في أغلب الأزمنة، وذهبت بحياة صاحبها.
للكتّاب طُرقهم في إنصاف المظلومين والعشاق والمغبونين وسيّئي الحظ: يتوخّون بمقالة ضد المستبدين، أو بقصيدة شعرية، أو قصة، أو مسرحية، إخراج أبطالهم من إسار الضنك والخوف إلى رحاب النعمة والسكينة، وربما من الخطيئة إلى الغفران.
وفي حال أُسقط بيد الكاتب، ولم يستطع أن ينجدهم بمفاجأة تبدّل حالهم، أو بمصادفة سعيدة تتوج آلامهم، فهو يتركهم للعناية الإلهية، فعدالة السماء كفيلة بالقصاص من الظالمين، ولو في عالم ما بعد الموت. لكل فعل جزاء؛ مَن فاته عقاب الدنيا، لن يغفله عقاب الآخرة.
ولقد برع الخيال الديني في كتب القيامة والحساب. كذلك الخيال الأدبي، ومثاله "الكوميديا الإلهية" لدانتي في وصف الجحيم، الذي بالغ الكتّاب به، فصوّروه درجات وطبقات لا يتوقف فيها التعذيب، إلا فواصل يأخذ المذنبون فيها نفساً للتهيئة لمرحلة أقسى.
حققت الكتابات عن الجحيم إشباع رغبات جارفة في التفنن بالتعذيب عززتها تصورات بلا شفقة ولا موانع: ما دام العقاب إلهياً، فلماذا الرحمة، أو الحدود؟ جحيم الواقع قصر عن جحيم الخيال، لكنه حاول من عصر لعصر تجاوزه وتطويره إلى ما هو أشنع.
ذلك ما جعل الجحيم السوري يحرز خلال سنوات إنجازات تفوق خيالات أولئك الذين أصابهم مسّ من ابتكارات التعذيب الجهنمي، فعرف من الإذلال ما تجاوز كل ما سبقه في الواقع والخيال معاً؛ إذلال ارتكبته نفوس أقل ما يقال عنها إنها حاقدة ومريضة، دلالة على التلذذ المروع بإيقاع الألم على أمثالها من البشر.
أما "المجتمع الدولي"، فيتجاهل عذابات السوريين، إذ العدالة في ضائقة مخزية، لا سيما أنها ليست مستعصية. في الحقيقة، تكمن أزمة العدالة في أن المصالح الدولية تدفعها نحو الارتداد إلى عكسها لتصبح تمثيلية تقوم على تصدير الظلم على أنه العدالة المطلوبة، وهو أسوأ أنواع الانحطاط الأخلاقي، تقوم عليه دول مثل أميركا، لا تستطيع حرصاً على مصالحها الأنانية التعرض لروسيا وإيران؛ الدولتين المتحكمتين بمصير الشعب السوري.
ينال الاتهام رؤساء دول وحكومات ديمقراطية، بالتالي فالجلادون، والشبيحة، والمثقفون المتوارون وراء ذرائعهم الكاذبة، وكتبة التقارير... ليسوا جميعاً إلا أدوات تنفيذ عمياء.
"المجتمع الدولي" لا يتحرج من تسويق عدالة بلا إنصاف، ترى ماذا يكون اسمها؟