02 نوفمبر 2024
عرفات وقلم الرصاص
لم يخلِّف قادة الثورة الفلسطينية المعاصرة نصاً فكرياً واحداً، بل استعصى عليهم ذلك أيما استعصاء. جورج حبش كان يقرأ كثيراً، لكنه لم يكتب إلا الرسائل والخطب. واشتهر عن وديع حداد أنه لم يكن يميل إلى القراءة، ولا إلى الكتابة، بل إلى العمل المباشر. أما ياسر عرفات فلم يؤثر عنه الشّغف بالأدب، أو الغرام بالفنون والأفكار؛ فقد عاش من دون هوايات تقريباً، فلم يكن يرتاد السينما أو المسارح أو العروض الموسيقية، أو حتى الاسترخاء في عطلة نهاية الاسبوع، فهذه المصطلحات كانت مضحكةً لمن يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، ولا ينام في مكان واحد ليلتين متتاليتين، غير أن قلائل يعرفون أن ياسر عرفات مارس "الصحافة" في إحدى مراحل حياته، فكان يكتب في مجلة "صوت فلسطين" التي أصدرها في القاهرة في سنة 1949، ثم في مجلة "فلسطيننا" التي أصدرها مع خليل الوزير في بيروت بين 1959 و 1964، لتكون منبراً إعلامياً لحركة فتح قبيل انطلاقتها. لكن مقالاته تلك كانت ذات طابع تعبوي وتبشيري.
قرأ ياسر عرفات مبكراً رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي، ورواية "الحرب والسلم" لتولستوي، ورواية "الأم" لمكسيم غوركي، فضلاً عن "عبقريات" عباس محمود العقاد، وكان يحفظ كثيراً من الأبيات الشعرية التي يردّدها في المناسبات، خصوصاً أشعار أبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) المشهورة مثل:
أُنشرْ على لهب القصيدِ/ شكوى العبيدِ للعبيدِ
وكثيراً ما كان ياسر عرفات يردّد إن الثورة ليست بندقية فحسب، بل هي قلم أديب وقصيدة شاعر وريشة فنان؛ إنها "قلم رصاص". وعلى الرغم من ذلك، فإن شعارين معاديين للثقافة تردّدا في أوائل سبعينيات القرن المنصرم في الأوساط الفلسطينية هما: "زغرد يا رصاص واخرس يا قلم" و"القرار ينبع من فوهة البندقية". وكان الشعراء والفنانون والكتاب يألفونه، ويأنسون إليه، أمثال كمال ناصر ومحمود درويش ومعين بسيسو واسماعيل شموط، وربطته علائق وثقى بعدد من المبدعات، أمثال لميعة عباس عمارة وليلى عسيران التي كان اسمها الحركي في فتح "الأخت خضرة"، وهي التي كتبت عن الفدائيين روايتي "عصافير الفجر" و"خط الأفعى". وكان الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة صديقه، وهو الذي صمم شعار "العاصفة" في 1966. وكان عرفات يهتم بالأدباء العرب، ويسأل عن أحوالهم دائماً؛ فهو الذي أصدر أمراً بتغطية نفقات علاج الشاعر أمل دنقل بعدما أصابه السرطان، وعلاج الكاتب السوداني جيلي عبد الرحمن الذي اشترى له جهازاً لغسل الكلى، ووضعه في منزله، كي يجنبه عناء الانتقال من المنزل إلى المستشفى.
في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، سرَت في بيروت، سريان النار في القصب اليابس، قصيدة للشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة عن عرفات، وتداولها الشعراء والسياسيون ما عدا أبو عمار الذي وصلت إليه متأخرة، فأعجب بها، وراح يردّد أبياتها، ويشير إلى كلمة "أهواه" وهو يضحك: لولا جلالة قدرِه ولكونه/ رمزَ الفداءِ لخلتَني أهواهُ
بعد ملتقى الشقيف الشعري الذي نظمه الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في سنة 1981، وشارك فيه أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف ومعين بسيسو وسليمان العيسى وشوقي بزيع وأحمد دحبور وآخرون، احتج شعراء الرصيف على استبعادهم، ورفعوا احتجاجهم إلى ياسر عرفات الذي طلب من يحيى يخلف تنظيم أمسية شعرية لهؤلاء في إحدى قاعات جامعة بيروت العربية. وقد حضر أبو عمار هذه الأمسية، وراح يضحك ويصفق لبعض القصائد. وعندما قرأ أحد الشعراء قصيدة عن رأسه المحشو بالفاليوم، وكيف أنه "زهق" من هذا الرأس، فخلعه ووضعه على الطاولة، راح أبو عمار يصفق ويقول: "أَعِدْ... أَعِدْ"، ما أثار دهشة بعض الحاضرين.
حكايات ياسر عرفات لا تنضب، مثل اسمه الذي لن يغيب.
قرأ ياسر عرفات مبكراً رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي، ورواية "الحرب والسلم" لتولستوي، ورواية "الأم" لمكسيم غوركي، فضلاً عن "عبقريات" عباس محمود العقاد، وكان يحفظ كثيراً من الأبيات الشعرية التي يردّدها في المناسبات، خصوصاً أشعار أبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) المشهورة مثل:
أُنشرْ على لهب القصيدِ/ شكوى العبيدِ للعبيدِ
وكثيراً ما كان ياسر عرفات يردّد إن الثورة ليست بندقية فحسب، بل هي قلم أديب وقصيدة شاعر وريشة فنان؛ إنها "قلم رصاص". وعلى الرغم من ذلك، فإن شعارين معاديين للثقافة تردّدا في أوائل سبعينيات القرن المنصرم في الأوساط الفلسطينية هما: "زغرد يا رصاص واخرس يا قلم" و"القرار ينبع من فوهة البندقية". وكان الشعراء والفنانون والكتاب يألفونه، ويأنسون إليه، أمثال كمال ناصر ومحمود درويش ومعين بسيسو واسماعيل شموط، وربطته علائق وثقى بعدد من المبدعات، أمثال لميعة عباس عمارة وليلى عسيران التي كان اسمها الحركي في فتح "الأخت خضرة"، وهي التي كتبت عن الفدائيين روايتي "عصافير الفجر" و"خط الأفعى". وكان الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة صديقه، وهو الذي صمم شعار "العاصفة" في 1966. وكان عرفات يهتم بالأدباء العرب، ويسأل عن أحوالهم دائماً؛ فهو الذي أصدر أمراً بتغطية نفقات علاج الشاعر أمل دنقل بعدما أصابه السرطان، وعلاج الكاتب السوداني جيلي عبد الرحمن الذي اشترى له جهازاً لغسل الكلى، ووضعه في منزله، كي يجنبه عناء الانتقال من المنزل إلى المستشفى.
في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، سرَت في بيروت، سريان النار في القصب اليابس، قصيدة للشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة عن عرفات، وتداولها الشعراء والسياسيون ما عدا أبو عمار الذي وصلت إليه متأخرة، فأعجب بها، وراح يردّد أبياتها، ويشير إلى كلمة "أهواه" وهو يضحك: لولا جلالة قدرِه ولكونه/ رمزَ الفداءِ لخلتَني أهواهُ
بعد ملتقى الشقيف الشعري الذي نظمه الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في سنة 1981، وشارك فيه أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف ومعين بسيسو وسليمان العيسى وشوقي بزيع وأحمد دحبور وآخرون، احتج شعراء الرصيف على استبعادهم، ورفعوا احتجاجهم إلى ياسر عرفات الذي طلب من يحيى يخلف تنظيم أمسية شعرية لهؤلاء في إحدى قاعات جامعة بيروت العربية. وقد حضر أبو عمار هذه الأمسية، وراح يضحك ويصفق لبعض القصائد. وعندما قرأ أحد الشعراء قصيدة عن رأسه المحشو بالفاليوم، وكيف أنه "زهق" من هذا الرأس، فخلعه ووضعه على الطاولة، راح أبو عمار يصفق ويقول: "أَعِدْ... أَعِدْ"، ما أثار دهشة بعض الحاضرين.
حكايات ياسر عرفات لا تنضب، مثل اسمه الذي لن يغيب.