تكاد الكتابةُ تكون فعلاً فردياً خالصاً، لِمَا يطبعها من حميمية ومن عزلة تَفصلانها عن الناس، وتحتاجهما للتركيز والتأمل والتخيّل، لتعود إلى الاتصال بهم عبر القراءة. ومع ذلك، فهناك وقائع كثيرة تدلُّنا على أنَّ توافر هذيْن الشَّرطيْن ليس ضرورياً دوْماً، بمعنى أنَّ الكتابة قد تصدر عن متعدِّد، ولدينا أمثلة من أجناس عديدة، تأتي السرديات الكبرى في مقدِّمتها، والتي تدل على أن مؤلِّفيها كثيرون، لكنّنا هنا نقتصر في ضرب مثل عربي على ذلك برواية "عالم بلا خرائط" التي اشترك في كتابتها جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف.
واعتباراً لما لقضايا الكتابة من حضور في الترجمة بصفتها إعادة كتابة، فإنّ السؤال بصدد وجوب توافر العزلة عند مزاولة الترجمة يجد ما يُبرِّره، بل يبدو مُستساغاً انطلاقاً من ارتباط الترجمة تاريخياً بالعزلة في أشكال عديدة.
ولعلَّ أقدمَ ما لديْنا عن الصلة بين الترجمة والعزلة ما يُعرَف بالترجمة السبعينية، التي تُعَدّ من التجارب الخارقة في هذا المضمار، والتي يُقال إن مُنجِزيها هم 72 حَبراً يهودياً (ستة أحبار عن كل قبيلة من القبائل الـ12)، استقدمهم بطليموس الثاني (284-246 ق.م)، لِنَقْل التوراة أو كُتب العهد القديم لليهود إلى اللغة الكُويْنِيَّة أي الإغريقية العامية، لإغناء مكتبة الإسكندرية، وجعل إقامتهم في حجرات معزولين عن بعضهم تماماً. لكنَّ معجزة حدثتْ عند خُروجهم إليه، بعد إنجازهم العمل في المدة المحدَّدة، إذ اكتشف الحاكم ومن معه أن النسخ جميعها متُطابقة حرفياً في ما بينها، وكأن رجلاً واحداً أنجزَها، لذلك اشتُهِرتْ بنعت الترجمة السبعينية، لأنه على الرغم من انقطاع الأحبار عن بعضهم، فقد صدرتْ عنهم ترجمة موحَّدة.
وتُذكِّرنا تجربة المنفى-العزلة التي قضاها رفاعة الطهطاوي في السودان، لنزوة من عباس الأول حاكم مصر، بالهدية الثمينة التي قدّمها مدير "دار الألسن" للقارئ العربي، لمّا ترجَم هنالك إلى العربية، تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تِليماك"، كتابَ الفرنسي فِنِلون "مغامرات تيليماك".
وتكاد تكون تجربة المترجم والكاتب والنحات والسينمائي الإسباني مانْويل دِلاإسْكَلِرا (1895-1994)، تحت نير حكم الدكتاتور فرانكو، من أهمّ تجارب الترجمة في عزلة السجن الذي قضّى فيه 23 سنة، ألّف فيها كتباً وترجم أخرى، لعلّ أكثرها ذيوعاً "طرزان" للأميركي إِدْغار رِيسِي بُورُّوْز.
قد تُوهِمُ هذه السطور بأن الترجمة نشاطٌ يفترض العزلة بالضرورة، أي التخلّي عن الاتصال، بينما واقع الحال يُفيدُ أنها تحمل بذرة الاتصال في جيناتها، لأنها وساطة بين مؤلَّف وقارئ، وبين ثقافتيْن، في المقام الأول، ولأنها من أكثر المهن إلزاماً لمتعاطيها بالاتصال المستمر بالناس والمؤسَّسات ومواكبة أحداث الحياة. ويؤيّد هذا التصوُّرَ ما هي عليه حالياً، في مؤسسات أكاديمية تُدرِّسُها، حيث الاشتغال يكون جماعياً أي تفاوضياً، وكذلك ظهور مكاتب للترجمة، حيث تُنجَز مختلف أشكالها ضمن فرق دأبُها التفاوض داخل مراكز ومؤسَّسات تجارية وحكومية متنوعة.
ولا يخفى أنّ فكرة التفاوض تسكن الترجمة، وهناك تجارب كثيرة يستشير فيها المترجِمون المؤلّفين، ومن ثَمّ تُرفَع العزلة عن العملية. أما المترجِم الذي يعمل وحيدا، فبمجرّد اختلائه بالنص الأصل، فإن الأخير يتحوّل إلى مُرسِل، بينما المترجِم يغدو مُرسَلا إليه، وهذا يخلق حوارا؛ فتقليب العبارة وتفسير الإشارة والتأويل كلها أشكال من التفاوض لبناء معنى للنص في اللغة المنقول إليها.
وغالباً ما تكون التجارب الثنائية في الترجمة، والتي تُعرَف بالترجمة الترادفية en tandem بين مترجِمين أنْجحَ من غيرها وأرْصَن، وتؤكّدها "جائزة الشيخ حمد"، التي حصّل عليها المغربيان محمد حاتمي ومحمد جادور عن ترجمتهما، إلى العربية عن الفرنسية، لكتاب المفكر عبد الله العروي "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية".