في تونس، وتحديدًا في الفرع التونسي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، انتظمت ندوة علمية، يوم 6 فبراير/ شباط 2016، تحت عنوان "الدين والعلمانية". ولئن بدا العنوان واسعًا غير منضبط بمحددات واسعة، فإن ذلك محض انطباع أوّلي. ذلك لأن الندوة المذكورة، خُصصت لنقاش عميق واسع وموسع، حول أمرٍ بعينه.
الندوة المغلقة، التأمت حول المؤلَّف الضخم، (ثلاثة أجزاء في زهاء 1880 صفحة) : "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، للدكتور عزمي بشارة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
وقد شارك في الندوة أزيدَ من عشرين باحثاً وجامعياً، يدرّس أو يدرس في الجامعات التونسية، ما وفر منصةً فريدة ربما، لتبادل الأفكار والنقاشات العميقة، والمجادلات المعمقة، خصوصاً وأن ذلك تمّ بحضور المؤلِّف نفسه، الأمر الذي أضفى على تلك الندوة المغلقة مزيدًا من الأهمية والحيوية، فضلًا عن تلك الفرصة في تعميق المفاهيم. وقد صرّح الدكتور بشارة إبّان الندوة، أنه في صدد إعداد الجزء الرابع والأخير للكتاب.
الكتاب / السِّفر
الكتاب الضخم، الأدنى إلى السفر، مقسّم بمنهجية صارمة، حيث خصص بشارة الجزء الأوّل منه للبحث في علاقة أنماط التديّن بالديمقراطية، متأنيًا في تحديد وتعريف عدد من المفاهيم، منها : الدين، التدين، الأخلاق، الأسطورة، السحر، العلم، الفلسفة، العلمنة، العلمانية، ملاحظًا كيف أن "الفرق بين أنماط التديّن في دول ومجتمعات معيّنة يتحدّد بنسبة كبيرة بأنماط العلمنة التي تعرّض لها المجتمع". ويمكن عد هذه الجملة الأخيرة، بمثابة الفكرة المفتاح، التي سيؤصلها بشارة، للبحث في جدلية فهمنا للدين والعلمنة. وهو ما مهّد للجزء الثاني من الكتاب (الواقع في مجلدين)، الذي كرّسه بشارة للنظر في "العلمانية"، في أرضها الأولى، أو مهدها الغربي، وكان عنوانه الفرعي : "العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية". فمن خلال مسح تاريخي وفكري ونقدي شامل، يكشف بشارة السياق التاريخي الأوروبي للعلمانية، مشددًا على أنها ليست جامدة أو ثابتة، بل متحركة ومتحولة، وقد تطورت تاريخيًا، وساهمت إلى هذا الحد أو ذاك في نسج العلاقة بين الكنيسة والكيانات السياسية، التي أخذت تتبلور شيئًا فشيئًا وأفضت إلى "الدولة"، بمعناها في نهاية العصر الوسيط، حيث كانت السلطة، سلطة الملك. يتابع بشارة بحثه الدؤوب في عصر النهضة ونفوذ الكنيسة، فالإصلاح الديني والبروتستانتية، قبل أن يركّز على "نشوء منطق الدولة" الذي يعدّه أمرًا جوهريًا. كل ذاك، بالتزامن، أو على هدي الاكتشافات العلمية، خصوصها في شقّها اللتجريبي، وإرسائها للتفكير العلمي، التي أدّت دورًا كبيرًا متحديًا، ظهرت بعض صوره في ما نعرفه من العلاقة الجدلية للكنيسة بالعلم. واستمر تأثيرها غير المنقطع، في فكر التنوير وما بعده وصولًا إلى نقده، وذلك كله بالطبع، محمول على معرفة عميقة بالفلسفة الغربية وأهم أعلامها. والجديد، إنه سيتوسع، إذ بعدما نظر بشارة في نماذج علاقة الدين بالدولة في أوروبا، انعطف صوب النموذج الأميركي، مقارنًا بينهما.
اقرأ أيضًا: عزمي بشارة، استقصاء العلمنة
ندوة استثنائية
ومثل أي ندوة علمية، كان لا بدّ من ورقة خلفية، تحدّد الإطار العام للموضوع، وتسوّغ مقارباته. وقد قدّم تلك الورقة الكاتب والباحث المغربي، كمال عبد اللطيف، الذي عدّ كتاب الدكتور بشارة "غير مسبوق في الفكر العربي، نظرًا إلى أنه ناقش أكثر المفاهيم التباسًا". فهو يتميز بحرص المؤلِّف على محاججة المسلّمات للبحث عن المسافات المطلوبة بين الدين والدولة، وهو ما جعله يلجأ إلى مراجعة معظم ما كُتب عن تطوّر مفهوم العلمانية عبر السياقات التاريخية، باعتبار أن العلمنة صيرورة تاريخية وليست مقولة جاهزة وجامدة. أمّا الباحث محمد الطاهر المنصوري، فقد آثر النظر في مسألة الإصلاح الديني والعلمانية من خلال مضمون الكتاب. ولاحظ أن المؤلف كعالم اجتماع، استند إلى الفلسفة والتاريخ إلى جانب شتى العلوم (المنهج)، ليؤكد، من جهة، أهميةَ الدين في حياة الأفراد والمجتمعات، ومشيرًا بالخصوص إلى أن العلمانية عند المؤلِّف "لا تقصي الدين وإنما تحدد طبيعة علاقاته بالفضاء العام وبالدولة تحديدًا".
أمّا أستاذ الفلسفة، فتحي المسكيني، فقد تعرّض لما وصفه بـ "حدود العلمانية"، ووصف كتاب بشارة بأنه "عابر للاختصاصات"، ويطغى عليه "طموح نسقي استثنائي" بحكم أن المؤلّف أراد أن يكون في هذا العمل منظّرًا. كما اتسم البحث بـ "اتساع مساحة المبحوث فيه"، مما جعل المسكيني يقول، إن "المؤرخ وحده هو القادر على قراءة الكتاب". ولاحظ أنه لمس وجود "أشياء لا يريد المؤلّف التعمق فيها". وأن ما شدّه في الكتاب هو العلمانية وليس الدين، وكأن صاحبه أراد أن يعلق الحكم على الدين ويتجنب نقده. وبقوله "لا دين بدون تدين" قد أخرج الدين من دائرة الإشكالية المطروحة للجدل، وتركز البحث على نقد العلمانية وذلك بهدف "تقديم تطمينات للمتدينين". واعتبر المسكيني أن السؤال الصامت الذي غطى البحث هو "كيف نوفر غطاءً نظريًا للمتدين المعاصر، ولكن بواسطة بحث تاريخي للعلمانية".
اقرأ أيضًا: عزمي بشارة في "الدين والعلمانية" جدلية التحديد والتمايز
اعتبر الباحث التونسي في الفلسفة السياسية، منير كشو، أن كتاب عزمي بشارة "يشكّل إحراجًا للمختصّ في الفلسفة" لأن العلمانية ليست موضوعًا فلسفيًا، مؤكدًا أنه، كمناقِش للكتاب، لا يؤمن بالفصل بين الأخلاق والسياسة. ولاحظ أن فكرة "الضمير" نشأتْ داخل السياق الغربي، ولكنها لم تطرح داخل السياق العربي الإسلامي. ورجع إلى الدراسة العالمية حول القيم، ليؤكد أن العلمنة انتشرت أكثر في المجتمعات التي كانت أقل عرضة للمخاطر.
وكان آخر المعلقين على الكتاب، الجامعي التونسي، محمد بوهلال، الذي توقف عند إشكالية "الدين والعلمانية في السياق الإسلامي"، حيث اعتبر أن المؤلف فتح عشرات النوافذ بعد أن "أصبحت المقاربة السابقة للعلمانية غير مجدية". ولاحظ أن كتاب عزمي بشارة "يذكرنا بالمشاريع الكبرى التي سبق وأن قدّمها مفكرون كبار، مثل حسين مروة ومحمد عابد الجابري وطيب التيزيني وغيرهم". وفي سياق عرضه، طرح المناقش السؤال الآتي: "هل وُجدت علمنة في التاريخ الإسلامي؟".
اقرأ أيضًا: "الدين والعلمانية" ثلاثية عزمي بشارة النقدية
واستعرض الاحتمالات الثلاثة التي اعتمدها الباحثون العرب. إذ إن هناك مَن اعتبر أن العلمانية كانت غائبة تمامًا في تاريخنا. وفي مقابل ذلك اعتقد بعضهم، مثل عبدالمجيد الشرفي من تونس، ومحمود طه في السوداني أن التاريخ الإسلامي كان دنيويًا، ولم يكن الدين إلا قشرة خارجية. في حين يعتقد طرف ثالث أن التجربة التاريخية الإسلامية عرفت مواقف ومحطات وتيارات ذات مضامين علمانية: عبدالرحمن بن خلدون، ابن مسكويه، حركة الزنج. وهناك من تذكر ما قاله المفكر التونسي الكبير، هشام جعيط، من أن كتاب "الأغاني" دليل على علمانية المجتمع الإسلامي. كما تمّت الإشارة إلى المدونة القانونية المعروفة بـ "أليسا الجنكيزية" التي فرضها جنكيز خان، وتفاعل معها المجتمع الإسلامي إلى أن انتقدها ابن تيمية، وكفّر بموجبها المغول.
وقد أثارت هذه الورقات نقاشًا ثريًا، حيث أشاد الجميع بأهمية كتاب الدكتورعزمي بشارة، الذي وصفه بعضهم بأنه "لم يمارس الكتابة بالوكالة عن غيره كما يفعل كثيرون". وهناك من توقّع أن الكتاب "سيستقبل بشكل جيد من الإسلاميين نظرًا إلى عدم وضع العلمانية في مقابل الدين أو نقيضًا له". في حين هناك من المشاركات في النقاش العام، من عبرت عن اعتقادها أن العلمانية "لن يكون لها مستقبل في العالم الإسلامي بحجة كونها ولدت في سياق غربي مختلف".
المؤلِّف والمنهج
لا شكّ في أن تشعب النقاش في الندوة واتساعه، يعود في جزءٍ منه إلى الحكم الكبير للكتاب، إلا أنه لا يمكن، في الآن ذاته، إغفال الأثر القوي لمنهج البحث الخاصّ بالمفكر بشارة، الذي يستطيع بسلاسة المزاوجة بين أكثر من منهج، فالمنهج التأريخي حاضرٌ وكذا التحليلي، من دون إغفال قوة الأفكار الفلسفية، والمعرفة بعلم الاجتماع، التي تؤدّي كلّها وفي الجملة، إلى ما يشبه المنهج المركّب.
وقد أثرت المنهجية الصارمة التي يتميّز بها بشارة، في طريقة تفاعله مع كل هذه الملاحظات والأسئلة، فلاحظ أن الجزء الرابع، من هذا الكتاب الذي تطلّب منه ما لا يقل عن عشرين عامًا، سيخصص للجانب التطبيقي، في ضوء ما تمّ إنجازه على الصعيد النظري خلال الأجزاء الثلاثة التي صدرت. ونفى أن يكون في بحثه قد فصل بين الدين والتدين، حيث خصص جزءًا كاملًا لنقد الدين. لكن ما يهمه في هذا السياق، مناقشة أنماط التدين وليس الدين في ذاته. أما بالنسبة لما يمكن أن توّفره الفلسفة الآن، فهو يعتقد أن الفلسفة فقدت كثيراً من أهميتها، ولم يبق للفلاسفة سوى التوجه نحو الفلسفة التحليلية. وأكد بالخصوص على أن العلمانية ليست موضوعًا فلسفيًا، وإنما هي ظاهرة اجتماعية. ولهذا لن نتمكن من نقد الظاهرة من دون اللجوء إلى سياقها الاجتماعي.
كما لاحظ بشارة أن قلة التدين لا تعني أن المجتمع علماني، فمجتمعاتنا، اليوم، تعتبر أكثر تدينًا مما كانت عليه قبل قرنين، وبالتالي رفض القول بأن التاريخ الإسلامي قد كان علمانيًا. هذا الأمر جعله يطرح السؤال الآتي: ما هي العلمانية التي يبحث عنها؟. هنا ربط بين العلمانية وبين دور الدولة، وأكد أن العلمانية هي صيرورة وليست مفهومًا جامدًا، ولاحظ أن العلاقة بين الدين والدولة تمّت وفق منطقين، إما إخضاع الدولة للدين أو العكس، مؤكدًا بالخصوص على أن العلمنة ليست إلحادًا، وإنما هي محاولة وضع حدود للدين.
وختم الدكتور بشارة تعليقه بالقول، إن اهتمامه ليس أكاديميًا، وإنه يفكر ضمن السياق التاريخي والسياسي الراهن، وإنه حريص على ربط اهتماماته بالمنهج العملي. وأكد بالخصوص على أن ما يهمه هو كيفية تغيير الواقع، ولا يعنيه في هذا السياق إرضاء هذا الطرف أو ذاك، بقدر ما يشغله البحث عن المساهمة في إنهاء حالة الفوضى والتفكّك التي تعيشها المنطقة العربية. وبيّن أنه لا يؤمن بإمكانية فصل الدين عن المجال العام، وإنما الأهم من ذلك هو تحديد المسافة بين التدين وإدارة الدولة. ولاحظ أن الإصلاح الديني ليس من مهام العلمانيين، وإنما هو جهد يقوم به المتدينون من داخل الفضاء الديني. وعلى هذا الأساس لم يعتبر نفسه مصلحًا دينيًا، مؤكدًا أن الإصلاح الديني يكتسب أهميته من خلال تأثيراته على جميع مكونات المجتمع. وعلّق ساخرًا: "محاربة الدين لا تتم من خلال الإصلاح الديني" كما يفعل بعضهم. ولاحظ، أيضًا، أن التلفيقية شيء مختلف عن الإصلاح الديني. وأخيرًا، عدّ أن مواجهة حركات العنف الديني مثل داعش، لا تتم من خلال الإصلاح الديني، لأن حركات العنف في أوروبا، وُلدت من داخل الإصلاح الديني أو بسببه. مكافحة هذه الظواهر الخطيرة تتم من خلال المواجهة السياسية وإصلاح الدولة والاقتصاد. وختم تعليقاته بالقول: "إن المشرق العربي يعيش حربًا أهلية مفتوحة، وهو ما جعله، كسياسي وكباحث، يتفرغ لمواجهة الطائفية التي تهدد بانهيار الدول وتفكيكها".
وقد شارك في الندوة أزيدَ من عشرين باحثاً وجامعياً، يدرّس أو يدرس في الجامعات التونسية، ما وفر منصةً فريدة ربما، لتبادل الأفكار والنقاشات العميقة، والمجادلات المعمقة، خصوصاً وأن ذلك تمّ بحضور المؤلِّف نفسه، الأمر الذي أضفى على تلك الندوة المغلقة مزيدًا من الأهمية والحيوية، فضلًا عن تلك الفرصة في تعميق المفاهيم. وقد صرّح الدكتور بشارة إبّان الندوة، أنه في صدد إعداد الجزء الرابع والأخير للكتاب.
الكتاب / السِّفر
الكتاب الضخم، الأدنى إلى السفر، مقسّم بمنهجية صارمة، حيث خصص بشارة الجزء الأوّل منه للبحث في علاقة أنماط التديّن بالديمقراطية، متأنيًا في تحديد وتعريف عدد من المفاهيم، منها : الدين، التدين، الأخلاق، الأسطورة، السحر، العلم، الفلسفة، العلمنة، العلمانية، ملاحظًا كيف أن "الفرق بين أنماط التديّن في دول ومجتمعات معيّنة يتحدّد بنسبة كبيرة بأنماط العلمنة التي تعرّض لها المجتمع". ويمكن عد هذه الجملة الأخيرة، بمثابة الفكرة المفتاح، التي سيؤصلها بشارة، للبحث في جدلية فهمنا للدين والعلمنة. وهو ما مهّد للجزء الثاني من الكتاب (الواقع في مجلدين)، الذي كرّسه بشارة للنظر في "العلمانية"، في أرضها الأولى، أو مهدها الغربي، وكان عنوانه الفرعي : "العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية". فمن خلال مسح تاريخي وفكري ونقدي شامل، يكشف بشارة السياق التاريخي الأوروبي للعلمانية، مشددًا على أنها ليست جامدة أو ثابتة، بل متحركة ومتحولة، وقد تطورت تاريخيًا، وساهمت إلى هذا الحد أو ذاك في نسج العلاقة بين الكنيسة والكيانات السياسية، التي أخذت تتبلور شيئًا فشيئًا وأفضت إلى "الدولة"، بمعناها في نهاية العصر الوسيط، حيث كانت السلطة، سلطة الملك. يتابع بشارة بحثه الدؤوب في عصر النهضة ونفوذ الكنيسة، فالإصلاح الديني والبروتستانتية، قبل أن يركّز على "نشوء منطق الدولة" الذي يعدّه أمرًا جوهريًا. كل ذاك، بالتزامن، أو على هدي الاكتشافات العلمية، خصوصها في شقّها اللتجريبي، وإرسائها للتفكير العلمي، التي أدّت دورًا كبيرًا متحديًا، ظهرت بعض صوره في ما نعرفه من العلاقة الجدلية للكنيسة بالعلم. واستمر تأثيرها غير المنقطع، في فكر التنوير وما بعده وصولًا إلى نقده، وذلك كله بالطبع، محمول على معرفة عميقة بالفلسفة الغربية وأهم أعلامها. والجديد، إنه سيتوسع، إذ بعدما نظر بشارة في نماذج علاقة الدين بالدولة في أوروبا، انعطف صوب النموذج الأميركي، مقارنًا بينهما.
اقرأ أيضًا: عزمي بشارة، استقصاء العلمنة
ندوة استثنائية
ومثل أي ندوة علمية، كان لا بدّ من ورقة خلفية، تحدّد الإطار العام للموضوع، وتسوّغ مقارباته. وقد قدّم تلك الورقة الكاتب والباحث المغربي، كمال عبد اللطيف، الذي عدّ كتاب الدكتور بشارة "غير مسبوق في الفكر العربي، نظرًا إلى أنه ناقش أكثر المفاهيم التباسًا". فهو يتميز بحرص المؤلِّف على محاججة المسلّمات للبحث عن المسافات المطلوبة بين الدين والدولة، وهو ما جعله يلجأ إلى مراجعة معظم ما كُتب عن تطوّر مفهوم العلمانية عبر السياقات التاريخية، باعتبار أن العلمنة صيرورة تاريخية وليست مقولة جاهزة وجامدة. أمّا الباحث محمد الطاهر المنصوري، فقد آثر النظر في مسألة الإصلاح الديني والعلمانية من خلال مضمون الكتاب. ولاحظ أن المؤلف كعالم اجتماع، استند إلى الفلسفة والتاريخ إلى جانب شتى العلوم (المنهج)، ليؤكد، من جهة، أهميةَ الدين في حياة الأفراد والمجتمعات، ومشيرًا بالخصوص إلى أن العلمانية عند المؤلِّف "لا تقصي الدين وإنما تحدد طبيعة علاقاته بالفضاء العام وبالدولة تحديدًا".
أمّا أستاذ الفلسفة، فتحي المسكيني، فقد تعرّض لما وصفه بـ "حدود العلمانية"، ووصف كتاب بشارة بأنه "عابر للاختصاصات"، ويطغى عليه "طموح نسقي استثنائي" بحكم أن المؤلّف أراد أن يكون في هذا العمل منظّرًا. كما اتسم البحث بـ "اتساع مساحة المبحوث فيه"، مما جعل المسكيني يقول، إن "المؤرخ وحده هو القادر على قراءة الكتاب". ولاحظ أنه لمس وجود "أشياء لا يريد المؤلّف التعمق فيها". وأن ما شدّه في الكتاب هو العلمانية وليس الدين، وكأن صاحبه أراد أن يعلق الحكم على الدين ويتجنب نقده. وبقوله "لا دين بدون تدين" قد أخرج الدين من دائرة الإشكالية المطروحة للجدل، وتركز البحث على نقد العلمانية وذلك بهدف "تقديم تطمينات للمتدينين". واعتبر المسكيني أن السؤال الصامت الذي غطى البحث هو "كيف نوفر غطاءً نظريًا للمتدين المعاصر، ولكن بواسطة بحث تاريخي للعلمانية".
اقرأ أيضًا: عزمي بشارة في "الدين والعلمانية" جدلية التحديد والتمايز
اعتبر الباحث التونسي في الفلسفة السياسية، منير كشو، أن كتاب عزمي بشارة "يشكّل إحراجًا للمختصّ في الفلسفة" لأن العلمانية ليست موضوعًا فلسفيًا، مؤكدًا أنه، كمناقِش للكتاب، لا يؤمن بالفصل بين الأخلاق والسياسة. ولاحظ أن فكرة "الضمير" نشأتْ داخل السياق الغربي، ولكنها لم تطرح داخل السياق العربي الإسلامي. ورجع إلى الدراسة العالمية حول القيم، ليؤكد أن العلمنة انتشرت أكثر في المجتمعات التي كانت أقل عرضة للمخاطر.
وكان آخر المعلقين على الكتاب، الجامعي التونسي، محمد بوهلال، الذي توقف عند إشكالية "الدين والعلمانية في السياق الإسلامي"، حيث اعتبر أن المؤلف فتح عشرات النوافذ بعد أن "أصبحت المقاربة السابقة للعلمانية غير مجدية". ولاحظ أن كتاب عزمي بشارة "يذكرنا بالمشاريع الكبرى التي سبق وأن قدّمها مفكرون كبار، مثل حسين مروة ومحمد عابد الجابري وطيب التيزيني وغيرهم". وفي سياق عرضه، طرح المناقش السؤال الآتي: "هل وُجدت علمنة في التاريخ الإسلامي؟".
اقرأ أيضًا: "الدين والعلمانية" ثلاثية عزمي بشارة النقدية
واستعرض الاحتمالات الثلاثة التي اعتمدها الباحثون العرب. إذ إن هناك مَن اعتبر أن العلمانية كانت غائبة تمامًا في تاريخنا. وفي مقابل ذلك اعتقد بعضهم، مثل عبدالمجيد الشرفي من تونس، ومحمود طه في السوداني أن التاريخ الإسلامي كان دنيويًا، ولم يكن الدين إلا قشرة خارجية. في حين يعتقد طرف ثالث أن التجربة التاريخية الإسلامية عرفت مواقف ومحطات وتيارات ذات مضامين علمانية: عبدالرحمن بن خلدون، ابن مسكويه، حركة الزنج. وهناك من تذكر ما قاله المفكر التونسي الكبير، هشام جعيط، من أن كتاب "الأغاني" دليل على علمانية المجتمع الإسلامي. كما تمّت الإشارة إلى المدونة القانونية المعروفة بـ "أليسا الجنكيزية" التي فرضها جنكيز خان، وتفاعل معها المجتمع الإسلامي إلى أن انتقدها ابن تيمية، وكفّر بموجبها المغول.
وقد أثارت هذه الورقات نقاشًا ثريًا، حيث أشاد الجميع بأهمية كتاب الدكتورعزمي بشارة، الذي وصفه بعضهم بأنه "لم يمارس الكتابة بالوكالة عن غيره كما يفعل كثيرون". وهناك من توقّع أن الكتاب "سيستقبل بشكل جيد من الإسلاميين نظرًا إلى عدم وضع العلمانية في مقابل الدين أو نقيضًا له". في حين هناك من المشاركات في النقاش العام، من عبرت عن اعتقادها أن العلمانية "لن يكون لها مستقبل في العالم الإسلامي بحجة كونها ولدت في سياق غربي مختلف".
المؤلِّف والمنهج
لا شكّ في أن تشعب النقاش في الندوة واتساعه، يعود في جزءٍ منه إلى الحكم الكبير للكتاب، إلا أنه لا يمكن، في الآن ذاته، إغفال الأثر القوي لمنهج البحث الخاصّ بالمفكر بشارة، الذي يستطيع بسلاسة المزاوجة بين أكثر من منهج، فالمنهج التأريخي حاضرٌ وكذا التحليلي، من دون إغفال قوة الأفكار الفلسفية، والمعرفة بعلم الاجتماع، التي تؤدّي كلّها وفي الجملة، إلى ما يشبه المنهج المركّب.
وقد أثرت المنهجية الصارمة التي يتميّز بها بشارة، في طريقة تفاعله مع كل هذه الملاحظات والأسئلة، فلاحظ أن الجزء الرابع، من هذا الكتاب الذي تطلّب منه ما لا يقل عن عشرين عامًا، سيخصص للجانب التطبيقي، في ضوء ما تمّ إنجازه على الصعيد النظري خلال الأجزاء الثلاثة التي صدرت. ونفى أن يكون في بحثه قد فصل بين الدين والتدين، حيث خصص جزءًا كاملًا لنقد الدين. لكن ما يهمه في هذا السياق، مناقشة أنماط التدين وليس الدين في ذاته. أما بالنسبة لما يمكن أن توّفره الفلسفة الآن، فهو يعتقد أن الفلسفة فقدت كثيراً من أهميتها، ولم يبق للفلاسفة سوى التوجه نحو الفلسفة التحليلية. وأكد بالخصوص على أن العلمانية ليست موضوعًا فلسفيًا، وإنما هي ظاهرة اجتماعية. ولهذا لن نتمكن من نقد الظاهرة من دون اللجوء إلى سياقها الاجتماعي.
كما لاحظ بشارة أن قلة التدين لا تعني أن المجتمع علماني، فمجتمعاتنا، اليوم، تعتبر أكثر تدينًا مما كانت عليه قبل قرنين، وبالتالي رفض القول بأن التاريخ الإسلامي قد كان علمانيًا. هذا الأمر جعله يطرح السؤال الآتي: ما هي العلمانية التي يبحث عنها؟. هنا ربط بين العلمانية وبين دور الدولة، وأكد أن العلمانية هي صيرورة وليست مفهومًا جامدًا، ولاحظ أن العلاقة بين الدين والدولة تمّت وفق منطقين، إما إخضاع الدولة للدين أو العكس، مؤكدًا بالخصوص على أن العلمنة ليست إلحادًا، وإنما هي محاولة وضع حدود للدين.
وختم الدكتور بشارة تعليقه بالقول، إن اهتمامه ليس أكاديميًا، وإنه يفكر ضمن السياق التاريخي والسياسي الراهن، وإنه حريص على ربط اهتماماته بالمنهج العملي. وأكد بالخصوص على أن ما يهمه هو كيفية تغيير الواقع، ولا يعنيه في هذا السياق إرضاء هذا الطرف أو ذاك، بقدر ما يشغله البحث عن المساهمة في إنهاء حالة الفوضى والتفكّك التي تعيشها المنطقة العربية. وبيّن أنه لا يؤمن بإمكانية فصل الدين عن المجال العام، وإنما الأهم من ذلك هو تحديد المسافة بين التدين وإدارة الدولة. ولاحظ أن الإصلاح الديني ليس من مهام العلمانيين، وإنما هو جهد يقوم به المتدينون من داخل الفضاء الديني. وعلى هذا الأساس لم يعتبر نفسه مصلحًا دينيًا، مؤكدًا أن الإصلاح الديني يكتسب أهميته من خلال تأثيراته على جميع مكونات المجتمع. وعلّق ساخرًا: "محاربة الدين لا تتم من خلال الإصلاح الديني" كما يفعل بعضهم. ولاحظ، أيضًا، أن التلفيقية شيء مختلف عن الإصلاح الديني. وأخيرًا، عدّ أن مواجهة حركات العنف الديني مثل داعش، لا تتم من خلال الإصلاح الديني، لأن حركات العنف في أوروبا، وُلدت من داخل الإصلاح الديني أو بسببه. مكافحة هذه الظواهر الخطيرة تتم من خلال المواجهة السياسية وإصلاح الدولة والاقتصاد. وختم تعليقاته بالقول: "إن المشرق العربي يعيش حربًا أهلية مفتوحة، وهو ما جعله، كسياسي وكباحث، يتفرغ لمواجهة الطائفية التي تهدد بانهيار الدول وتفكيكها".