عزيز أَزْغايْ.. خيميائي المادة واللون

23 مارس 2014
الفنان أمام إحدى لوحاته
+ الخط -


قبل كل شيء، لا يتعلَّق الأمر هنا بقراءةٍ نقدية أو نظرية لأعمال المعرض التشكيلي الجديد الحافل للفنان والشاعر المغربي عزيز أزغاي، والذي اختار أن يسمّيه " تكويناتٌ عفوية" بنوعٍ من المكر الجميل الذي تقتضيه لعبة التَّسميات. التسمية التي تصدر عن خبرة الشاعر الذي يدرك أن منح اسمٍ هو إعطاء وجودٍ وبناء معنًى وتدشينٌ لميلادٍ ولأفق.

إننا أمام اسمٍ لمبدعٍ له خبرة التركيب والتكوين، لكنه مبدعٌ حريص على عفوية الأداء الفني والتقني والجمالي وتلقائية الحركة الجسدية والإيماءة التي تمنح المادة حرِّيتها. ولا ينبغي أن نفهم من هذه العفوية فعلاً مجانياً أو اعتباطياً أو فارغاً من كل معنىً، ومن كل مرجعيةٍ، ومن أيِّ رؤية.

تكويناتٌ عفويةٌ، هي عتبةٌ لهذا المعرض. وهي مصيرُهُ أيضاً.

الاسم هكذا، يُدشِّن ويخْتِم. وهو عنوانٌ جديد يأتي ليُعزِّز، بهذا المعرض، مساراً فنياً يتقدم مُغْتنياً بالأسماء وتراكُم التقنيات والأداءات والخبرات.

*

هنا، في بيته ـ في الرباط ـ أتردَّد على الفنان عزيز أزغاي لأجده مغموراً بأعماله الجديدة. وقد بدأتُ أعتاد، تدريجياً، النظر إليه كفنان تشكيلي حقيقي محاولاً أن أنسى قليلاً أنه شاعر أساساً (وهل أستطيع الفصْل؟).

في البيت الصغير، الأنيق، النظيف، المرتب بعناية، يدخل زوّاره غرفة الضيوف فيجدون أنفسهم في قلب الأُسْرة. إنه يقتسم الغرفة بين الضيوف واللوحات. هنا يرسم، ويصبغ، ويكتب، ويقرأ ويشاهد التلفزيون. وهنا، فيما أنت تتنقَّل في غابة الأعمال الجديدةِ، من مختلف الأحجام والسندات (Les supports) والمواد والألوان، تسمع وقْع الخطو الصغير في الممر الصغير وفي الغرفة الصغيرة المجاورة. إنهم صِغارُهُ الرّائعون، ثم إنها طفلته سُلْطانة (4 سنوات) تَصل حاملةً دميتها وأعمالها الصِّباغية باحثة فيَّ عن صداقةٍ جديدة وعن جمهورٍ يعرف كيف يُشاهد براءة التكوينات وعفوية المتخيل الصغير.

لا أحد يستطيع أن يبقى محايداً تجاه هذه الصِّباغة، وهذه الأعمال المعلّقة والمتكئة على جدران الغرفة مثل نساءٍ ناعمات في القيلولة. لا بد أن تُنصت لهذه اللوحات الصغيرةِ، على سَنَدٍ خشبٍ، والكبيرة ذات الأقمشة الهائلة، فهي تكلِّمك بكل ما يمكن للصمت أن يقوله.

في الممر حيث تقتادك سُلطانة، يدها الصغيرة في يدك، كي ترى إخوتها وأشياءها، قد تلحظ لوحات معلقة لأزغاي ولبعض أصدقائه من الفنانين، وحتى من بعض الكتَّاب الذين أدركتْهم حِرفة الصّباغة والرسم. وقد تعثر على حذاءٍ أو مظلةٍ أو آنية زهورٍ أو حِلْيَةٍ أو مرآةٍ. وقد تبدو لك في المرآة، كما في القصيدة، نافذة هادئة قليلاً. ومن النافذة، يمكنك أن تُطِلَّ على خطوات بعيدة، تُقْبِلُ من هناك ـ من الريف أو من الدار البيضاء، من كلية الآداب بن امْسيك، ومن تلك الأحياء المُلْقى بها هناك مثل "تكويناتٍ عفوية"، ومن ذلك الطفل الصغير الذي كانَهُ عزيز أزغاي، ومن ذلك الفتى اليساري في الحي، ثم في الكلية، الذي يشعُّ بالحياة والأمل وتغمره مادة التاريخ، وبالأخص التاريخ القديم حليف الأركيولوجيا والنّقوش الصخرية والرسوم القديمة على الجدران والأسوار وفي الكهوف.



هنا أيضاً، اللوحاتُ ماكراتُ النظرة والصّمت.

الصّمت، وما لا يَنْقالُ يتَجَسْدَنُ ويتَّخذ شكل مادةٍ خرائطية.

كلُّ لوحةٍ تجد العُذْر الملائم لتُكَلِّمك. لتنتدبَ نفسها كي تقول لك كلمات الفنّان الشاعر عزيز أزغاي. كلماتُه التي لم يقلها في قصيدته ولا بلسانه. اللوحات وحدها، هنا، تقول كلَّ شيء، حتى إنها تكاد، بفضل صمتها الموسيقي العميق، أن تتفوق على القصيدة في الإفصاح عن الشاعر، أقصد التشكيلي، وفي أن تقول صمتَه الخاص، أقصد وشْمَهُ، جرحه، حزنه، غبطته، لوْعته، باطنه، ظاهره، روحه وكلَّ كيانه وكلَّ كونه.

في هذه اللوحات، حيث يلوذ أزغاي بمنطقة الصمت والظل واللون مبتعداً ـ قليلاً أكثر ـ عن اللسان والكلمات والقصيدة، تتبعه التفاصيل. بعضها على الأقل مما رأيناه في قصائده. وإن كان بإمكانه، في هذه اللغة البصرية الأنيقة، أن يملأ فمه بالصمت، فإنّ العين الممتلئة بالعلامات، بالصُّوَر والآثار والرموز والخدوش والخرْبشات و كتابات الجدران، لا يستطيع أن يُغْلقها. في هذا المختبر، العين حاسّة أولى للمعرفة والتعبير. إنها تُضيء.

كأنه ضوءٌ من القصيدة إلى اللوحة. ولعله ضوءٌ نكتشف هنا ينبوعه المحجوب، قبل أن يتسرْسبَ في طريقه نحو القصيدة. وسواءٌ في العمل التشكيلي أو في الكتابة الشعرية (ها أنا، مرة أخرى، لا أستطيع أن أفصل بين الرسّام والشّاعر)، نصادف الضوء نفسه، والنظرة ذاتها إلى الأشياء وإلى العالم. كان ديدرو (Diderot) يرى الشعر مثل "نسيج هيروغليفي"، وكان لديه حق. فالشعر ليس مجرّد لغةٍ أو كلماتٍ، بل ضوءٌ وظلٌّ ونظرةٌ ونَفَسٌ ومادّةٌ وتمرينٌ روحيٌّ وتجربةٌ جسدية.

*

يتأمل أزْغايْ مساره الشخصي فيما هو يتمثَّل مسار الحركة التشكيلية في بلدهِ، وفي العالم. هكذا ينبغي أن يتصرَّف كل فنّان يريد أن يتطوَّر. ولذا نراه يختزل الهِبات كلَّها في هِبَته. وهو يشتغل في كونه الشَّفيف، ولا أسرارَ مهنية له. كلَّ يوم، يتعلم ويُعلِّم. يُقال له ويقول، يتبادل المعطيات والخبرات والمعارف، له فضيلة التبادل وسخاء الشراكة وحسُّ الإنصات (راسُو صْغيرْ)، لا يضجر ولا يقلق ولا يتهيَّب من روح التَّتلمُذ. ومن ثم، نراه يتطور باستمرار، ويتحول دونما توقف في عمله الفني، وفي رؤيته التِّقنية والجمالية.

تراه في شقَّته الصغيرة (التِّيساع في القلب، كما يقول المغاربة)، وفي المطعم أو المَشْرَب أو الجامعة أو مدرسة الأساتذة أو القاعة أو الرِّواق، أو في بيت الشِّعر وفي دار النّدوة وفي المطبعة، وفي الحياة - دائماً هُوَ هُوَ، يتحدّث في اللوحة وفي القصيدة قادراً، على الدوام، على أن يَخُصَّ أصدقاءه بنصيبٍ من شفافيته في اللون والضّوء وروح التَّفَكُّه. له هذه الموهِبة أيضاً، قدرتُه على الانفتاح والتّواصل وبناء الصّداقات.

وله سلالتُه التشكيلية العميقة مثلما كانت له سلالتُه الشعرية (نغْبِطه على هذه القرابة المضاعَفة، وظَنِّي أنّه عرف، بحسّه المرهَف، كيف يُقيم في خطِّها، وكيف يُنصت لصمتها، وكيف يقرؤها، وكيف يحاورها محاولاً البحث لنفْسه عن مسْرَب، وبالتالي عن مكانٍ يليق بمغامرته وجهده وتجربته وصَبْره.

سُلالةٌ قد نرتقي بها نحو الإسباني أنطوني تابِّيِّيسْ (Antoni Tapies) ومحمد القاسمي، الصَّاحب المُصاحِب رحمه الله، ومحمد بناني (مُوَا)، ونُعرِّج بها على زملائه أحمد جاريد، حسّان بُورْقية، أحمد بن اسماعيل، محمد المرابطي، وعبد الحي الملاَّخ (في تجربته الجدارية، بداية الثمانينيات الماضية)، خصوصاً في استثمار آثار الجدران، تلك اللَّطخات البصرية الخصبة التي نراها كل يوم في شوارع مدننا، الكتابات والخربشات والعلامات والرسوم والتخطيطات. ذاكرة الطفل الذي كانهُ، ومتخيل الفنان الشاعر وهو يصنع بها نشيده الوثنيّ حيث الجدار مرآة، وحيث الجدار غير قابل للاختراق يغدو "موتيف" وتيمة وتقنية وصلاة لشُكْر الوجود والموجودات.

الجدار، اللطخات والخربشات والخدوش التي كان ليوناردو دافينتشي أول من سجَّل "سلطة اقتراحِها"، والتعبير له، حتى إنّه قال " إنّ الأمر شبيهٌ بِرنِينِ جَرَسٍ يُسْمِعنا ما نتخيَّله".

ذلك إحساسي أمام هذه الأعمال الجميلة للفنان عزيز أزْغايْ، أرى وأُنْصِتُ.

المساهمون