يثبت علي الحجار (1954) نظرية أن العمل الجيد لا يتأثر بالزمن، وأن الأغنية مقياسها الوحيد في ذاتها لا في شيء آخر، وأن وسط ذروة الموسم الموسيقي، يطل علينا الحجار بأغنية عمرها يقارب الـ 20 عاماً، ويعيد إلى أذهاننا الشاعر عصام عبد الله (1955 - 1996)، واحد من أهم من كتبوا الأغنية واقتحموا دروبا جديدة وتجريبية.
رحل عنا عصام عبد الله في عام 1996. رغم رحيله المبكر، إلا أن بصماته الغنائية تعتبر من أهم البصمات الفنية في تاريخ شكل الأغنية المصرية عبر الأجيال، خصوصاً ما بعد جيل الكبار الذي انتهى مع نهاية السبعينيات. جاء عبد الله ليكون واحداً ممن حملوا هم تغير كلمات الأغنية كي يناسب شكل الألحان الجديدة، كلمات تعبر عن هذا الجيل وعن فلسفة كامنة في السطور الصغيرة للأغنية. عصام عبد الله كتب لكل جيله، وكتب كل الأشكال، من العاطفي، والوطني، وحتى الأطفال، وطرح فلسفته في العديد من الأغاني، خصوصاً مع علي الحجار، مثل "روحي فيكي تروح" و"في قلب الليل".
طرح علي الحجار خلال الشهر السابق، أغنية جديدة علينا، قديمة بالنسبة له، "بالي تبلبليه". الأغنية مع الحجار منذ أكثر من 20 عاماً، لكنه لم يخرجها للنور طوال تلك الفترة. اقتبس لحنها من الموسيقي الفرنسي الجزائري إنريكو ماسياس، ووزعها مصطفى علي إسماعيل، هو ابن الملحن والموزع علي إسماعيل، صاحب التجارب المهمة مع ثريا حلمي وإسماعيل يس، وفرقة "ثلاثي المرح" وفرقة رضا، والعديد من التوزيعات لمطربين كثيرين على رأسهم عبد الحليم حافظ.
هي إحدى قصائد عصام عبد الله، التي طرحت بعد رحيله. لم تكن هي المرة الأولى التي يطل علينا عبد الله من العالم الآخر، بكلماته وروحه، سنجد أغنية "وحدانية" لأنغام التي قدمتها عام 1999، وأغنية لطيفة "تروح وترجع" (2003)، وهي بالمناسبة ألحان وتوزيع مصطفى علي إسماعيل أيضاً. كانت أعماله قليلة في الأغاني لكن أغلبها كان بصحبة عصام عبد الله، مع لطيفة كما ذكرنا ومع محمد منير في "لو بطلنا نحلم نموت" و"الطول واللون والحرية"، وأخيراً لعصام عبد الله بعد رحيله كانت في 2007 مع روبي؛ أغنية "مش حتقدر". وهي الأغنية الوحيدة التي لم يعلم أن روبي ستغنيها، وربما كان أداء روبي الجميل في الأغنية هو خير شفيع لها أمام عصام.
في كل أغنية لـ عبد الله يقتحم الشاعر مجالاً جديداً. يفتح أحد دروب الشعر الغنائي ويضع بصمته فيه ويرحل بهدوء، من دون أن تشعر به. هنا، يلعب عصام على عدة أصعدة، بداية من الكتابة بالفصحى، وهو كان يفعل ذلك في بعض أغانيه على استحياء، لكن هنا كانت التجربة قائمة على اللعب على الجناس بين الكلمات، وخلق إيقاع خاص به، لتجد أن تلحين الكلمات لا يستغرق شيئاً، فالكلمات ملحنة من تلقاء نفسها. هكذا، فإن الشاعر قادر وهو في العالم الآخر، أن ينثر البهجة والجمال بكل خفة كما لو أنه حاضر حتى هذا اليوم.
بجانب خلق عبد الله لحالة من الصد والرد بين الحبيب وحبيبه، نجد روحاً للحالة الصوفية في العشق، من الصور الكثيرة المركبة في الأغنية، وبين حالة العشق والهيام التي تحمله كلمات الأغنية، والهيام الذي لا مفر منه، مثل القدر، والألفاظ المختارة التي توضح هذه الحالة، مثل قوله "شئنا أم أبينا.. نتلاقى فيه"، حتى اسم الأغنية مبني على لفظ جديد على الأذن وهو تبلبليه، ليؤكد عصام عبد الله أنه شاعر غنائي استثنائي، لن تجود الحياة بمثله كثيراً، فهو أيضا ليس شاعراً يكتب القصائد، مثل صلاح جاهين أو عبد الرحيم منصور أو الأبنودي، هو كان كل تركيزه وأفكاره وفلسفته تخرج في الأغاني.
لم يكن التوزيع هو الأنسب للأغنية، ربما ظلمها. لعلّ مصطفى علي إسماعيل لم يدرك، وهو رفيق عصام، أن البطل هنا هو الكلام، وأن يجعل التوزيع أكثر بساطة وانسيابية كما جاءت الكلمات، لكن مع التوزيع جاءت الموسيقى أعلى من صوت علي الحجار، وأصبح من الصعب تحديد الكلام، وذلك أفقد الأغنية الكثير من جمالها، فالكلمات هنا هي البطل، الحالة التي يخلقها عصام عبد الله كفيلة أن تجعل الأغنية ناجحة وجميلة وتجريبية، ربما كان على إسماعيل إعادة توزيعها بشكل أكثر هدوءاً، ربما يعالج الحجار هذه المشكلة في الغناء المباشر (اللايف) ليصبح صوته واضحاً مثل الموسيقى.
اقــرأ أيضاً
في النهاية، هي أغنية كانت من الممكن أن تضيع وسط أغان كثيرة لم تر النور لأسباب متباينة، ولا نعلم إن كان يملك علي الحجار أغاني أخرى لعصام عبد الله لم تنشر. لكن جاءت الأغنية كي نرسل سلامنا إلى واحد من أهم من كتبوا الأغنية المصرية في تاريخها الحديث، وبصوت واحد من أهم من جاؤوا في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وحتى الآن.
هكذا، يمكننا القول إنّ عبد الله استطاع نقل الأغنية المصرية إلى مرحلة مختلفة كلياً؛ فكلماته وبُنية النص الذي يبتكره، اختلفت كثيراً عمّا اعتاده الجمهور، يراوح نص عبد الله الغنائي بين السرد القصصي، والمحتوى الشعري، إلى جانب المزج بين العامية والفصحى، حتى أن له أغاني تمكن قراءتها بكلتا اللهجتين.
رحل عنا عصام عبد الله في عام 1996. رغم رحيله المبكر، إلا أن بصماته الغنائية تعتبر من أهم البصمات الفنية في تاريخ شكل الأغنية المصرية عبر الأجيال، خصوصاً ما بعد جيل الكبار الذي انتهى مع نهاية السبعينيات. جاء عبد الله ليكون واحداً ممن حملوا هم تغير كلمات الأغنية كي يناسب شكل الألحان الجديدة، كلمات تعبر عن هذا الجيل وعن فلسفة كامنة في السطور الصغيرة للأغنية. عصام عبد الله كتب لكل جيله، وكتب كل الأشكال، من العاطفي، والوطني، وحتى الأطفال، وطرح فلسفته في العديد من الأغاني، خصوصاً مع علي الحجار، مثل "روحي فيكي تروح" و"في قلب الليل".
طرح علي الحجار خلال الشهر السابق، أغنية جديدة علينا، قديمة بالنسبة له، "بالي تبلبليه". الأغنية مع الحجار منذ أكثر من 20 عاماً، لكنه لم يخرجها للنور طوال تلك الفترة. اقتبس لحنها من الموسيقي الفرنسي الجزائري إنريكو ماسياس، ووزعها مصطفى علي إسماعيل، هو ابن الملحن والموزع علي إسماعيل، صاحب التجارب المهمة مع ثريا حلمي وإسماعيل يس، وفرقة "ثلاثي المرح" وفرقة رضا، والعديد من التوزيعات لمطربين كثيرين على رأسهم عبد الحليم حافظ.
هي إحدى قصائد عصام عبد الله، التي طرحت بعد رحيله. لم تكن هي المرة الأولى التي يطل علينا عبد الله من العالم الآخر، بكلماته وروحه، سنجد أغنية "وحدانية" لأنغام التي قدمتها عام 1999، وأغنية لطيفة "تروح وترجع" (2003)، وهي بالمناسبة ألحان وتوزيع مصطفى علي إسماعيل أيضاً. كانت أعماله قليلة في الأغاني لكن أغلبها كان بصحبة عصام عبد الله، مع لطيفة كما ذكرنا ومع محمد منير في "لو بطلنا نحلم نموت" و"الطول واللون والحرية"، وأخيراً لعصام عبد الله بعد رحيله كانت في 2007 مع روبي؛ أغنية "مش حتقدر". وهي الأغنية الوحيدة التي لم يعلم أن روبي ستغنيها، وربما كان أداء روبي الجميل في الأغنية هو خير شفيع لها أمام عصام.
في كل أغنية لـ عبد الله يقتحم الشاعر مجالاً جديداً. يفتح أحد دروب الشعر الغنائي ويضع بصمته فيه ويرحل بهدوء، من دون أن تشعر به. هنا، يلعب عصام على عدة أصعدة، بداية من الكتابة بالفصحى، وهو كان يفعل ذلك في بعض أغانيه على استحياء، لكن هنا كانت التجربة قائمة على اللعب على الجناس بين الكلمات، وخلق إيقاع خاص به، لتجد أن تلحين الكلمات لا يستغرق شيئاً، فالكلمات ملحنة من تلقاء نفسها. هكذا، فإن الشاعر قادر وهو في العالم الآخر، أن ينثر البهجة والجمال بكل خفة كما لو أنه حاضر حتى هذا اليوم.
بجانب خلق عبد الله لحالة من الصد والرد بين الحبيب وحبيبه، نجد روحاً للحالة الصوفية في العشق، من الصور الكثيرة المركبة في الأغنية، وبين حالة العشق والهيام التي تحمله كلمات الأغنية، والهيام الذي لا مفر منه، مثل القدر، والألفاظ المختارة التي توضح هذه الحالة، مثل قوله "شئنا أم أبينا.. نتلاقى فيه"، حتى اسم الأغنية مبني على لفظ جديد على الأذن وهو تبلبليه، ليؤكد عصام عبد الله أنه شاعر غنائي استثنائي، لن تجود الحياة بمثله كثيراً، فهو أيضا ليس شاعراً يكتب القصائد، مثل صلاح جاهين أو عبد الرحيم منصور أو الأبنودي، هو كان كل تركيزه وأفكاره وفلسفته تخرج في الأغاني.
لم يكن التوزيع هو الأنسب للأغنية، ربما ظلمها. لعلّ مصطفى علي إسماعيل لم يدرك، وهو رفيق عصام، أن البطل هنا هو الكلام، وأن يجعل التوزيع أكثر بساطة وانسيابية كما جاءت الكلمات، لكن مع التوزيع جاءت الموسيقى أعلى من صوت علي الحجار، وأصبح من الصعب تحديد الكلام، وذلك أفقد الأغنية الكثير من جمالها، فالكلمات هنا هي البطل، الحالة التي يخلقها عصام عبد الله كفيلة أن تجعل الأغنية ناجحة وجميلة وتجريبية، ربما كان على إسماعيل إعادة توزيعها بشكل أكثر هدوءاً، ربما يعالج الحجار هذه المشكلة في الغناء المباشر (اللايف) ليصبح صوته واضحاً مثل الموسيقى.
هكذا، يمكننا القول إنّ عبد الله استطاع نقل الأغنية المصرية إلى مرحلة مختلفة كلياً؛ فكلماته وبُنية النص الذي يبتكره، اختلفت كثيراً عمّا اعتاده الجمهور، يراوح نص عبد الله الغنائي بين السرد القصصي، والمحتوى الشعري، إلى جانب المزج بين العامية والفصحى، حتى أن له أغاني تمكن قراءتها بكلتا اللهجتين.