عندما تسرق إسرائيل التاريخ البصري الفلسطيني

08 يوليو 2017

معرض في القدس.. من تاريخ اللجوء الفلسطيني (28/11/2013/فرانس برس)

+ الخط -
على مدى تاريخ الصراع على أرض فلسطين، لم توفر إسرائيل فرصةً للاستيلاء ليس على الأرض الفلسطينية والتاريخ الفلسطيني فحسب، وإنما على كل متعلقات هذه الشعب أيضا، أو أي وثيقةٍ تثبت هذا الوجود، حتى لو كان فيلما أو صورة أو حتى خريطة. والمفارقة الأكثر سخريةً أن إسرائيل تدّعي أنها تقوم بذلك، من أجل حفظ هذا الأرشيف، في وقتٍ تعمل فيه على حجبه وإخفائه، لأنه يروي قصة وتاريخاً آخر لا يتوافق مع الرواية الصهيونية للصراع، لذلك يجب حجبه، ومنع الوصول إليه.
كم هائل من الصور والأفلام والخرائط استولت عليها إسرائيل، حتى إنها استولت على الصور الشخصية من البيوت التي تركها أهلها وقت حرب العام 1948، كما حدث مع ألبوم صور فريدة نهب من منزل عائلة النشاشيبي البارزة في القدس عام 1948. ونحن نتحدّث عن كم هائل من الذاكرة البصرية للفلسطينيين التي استولت إسرائيل عليها. وهي تبلغ حوالي 38 ألف فيلم و2.7 مليون صورة و96 ألف تسجيل صوتي و46 ألف خريطة وصور جوية تم جمعها في أرشيف الجيش الإسرائيلي منذ 1948، بأمرٍ من أول رئيس وزراء إسرائيلي ووزير "الدفاع"، ديفيد بن غوريون. وبالتدقيق، يتبيّن أن هذا الكم الهائل من الصور يحمل تأثيراً هائلاً واستثنائياً، ويتمتع بأهمية كبيرة للغاية.
جاء هذا الكم الهائل من "غنائم الحرب من الأفلام" التي لا يزال حجمها وتفاصيلها الكاملة مجهوليْن تماماً، واستولى عليها الجيش الإسرائيلي من الأرشيفات الفلسطينية في الغارات
والمداهمات التي نفذها على مر السنين، وفي مقدمتها حرب لبنان عام 1982. كما كتب عوفر أديريت في مقاله المهم في صحيفة هآرتس الإسرائيلية (1/ 7/2017) تحت عنوان "لماذا دُفنت صور وأفلام فلسطينية لا تُحصى، في الأرشيفات الإسرائيلية؟" عن عمل الباحثة الإسرائيلية، رونا سيلا، التي قضت سنوات طويلة في البحث عن الأرشيف البصري الفلسطيني الذي استولت عليه إسرائيل، ثم اكتشفت أنه موجود في أرشيف الجيش الإسرائيلي.
صنعت سيلا من هذا البحث المضني فيلمها "المنهوب والمخفي: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل"، الفيلم الوثائقي باللغة الإنكليزية، وتستعرض فيه مصير الصور والأفلام الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها، وإيداعها في الأرشيف الإسرائيلي. يتضمّن الفيلم شرائح غير معروضة من قبل من الأفلام التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي من المحفوظات الفلسطينية في بيروت. وكتبت سيلا أن هذه السجلات الوثائقية "تم محوها من الوعي والتاريخ" عقودا طويلة.
تشير كيفية التعامل الإسرائيلي مع هذا التاريخ البصري الفلسطيني إلى أن إسرائيل تصاب بالخوف، عندما يكون الحديث عن الفلسطينيين ووثائقهم، ولو كانت هذه الوثائق مجرد أفلام أو صور وخرائط، والتعامل معها بوصفها "مواد سرّية". وهذا ما نعرفه من مسار سيلا الطويل للوصول إلى هذا الأرشيف، فبعد أن عرفت سيلا بأمر المحفوظات التي نهبها الجيش الإسرائيلي من مقرّات منظمة التحرير في بيروت من جندي إسرائيلي، شارك في نقله من بيروت. طلبت سيلا في العام 2000، مدعومة باكتشافاتها الأولية، الحصول على إذنٍ من هذا الأرشيف، لفحص المواد البصرية التي استولى عليها الجيش في الثمانينيات. وكانت الاستجابة الأولية تتجسّد في الإنكار: قيل لها إن هذه المواد ليست في حوزة إسرائيل. تقول سيلا: "ولكني كنت أعرف ما الذي كنت أبحث عنه، لأنني كنت امتلك شهادات الجنود"، وأضافت أنها عندما أصرّت على طلبها، واجهت "صعوبات وقيودا مختلفة وأحبطت إمكانية البحث عن المواد". وجاء التقدم المفاجئ عندما استعانت بمساعدة المحاميين، مايكل سفارد وشلومي زكريا، في عام 2008. تلقوا، في بادئ الأمر، كلمة أكّدها المستشار القانوني لوزارة الدفاع، أن غنائم عديدة تم الاستيلاء عليها في بيروت أصبحت اليوم جزءاً من أرشيف الجيش الإسرائيلي. ومع ذلك، أُبلغت سيلا لاحقاً أن "أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية للتصوير الفوتوغرافي"، كما كانت تشير وزارة الدفاع بشكل عام إلى مواد التصوير الفوتوغرافي المأخوذة من الفلسطينيين، يمثل "مواد محفوظة متعلقة بالشؤون الخارجية والأمن، وعلى هذا النحو تعد "مواد سرية" كما تحددها الفقرة 7. (أ) من لائحة قوانين الأرشيفات.
لم تترك إسرائيل تفصيلا فلسطينيا إلا وتحاول المسّ به، تحت إصرار وعناد أن الفلسطينيين لم يوجدوا يوما على أرض "إسرائيل". لذلك، يجب محو كل ما يتعلق بوجودهم على هذه
الأرض، قامت بتغيير أسماء القرى والمدن التي عاش الفلسطينيون فيها، ومحاولة السطو حتى على التاريخ القديم لفلسطين، وإعادة كتابته وفق الرواية الصهيونية، واستولت على الفلكلور الفلسطيني وادّعاء يهوديته. اليوم، نكتشف جريمة إسرائيلية إضافية بحق الذاكرة البصرية، ولا شك بالأهمية الاستثنائية للذاكرة البصرية، وهو ما تعرفه إسرائيل، فللصورة قوة استثنائية في صراع الأرض والرموز، الكلام المدعوم بالصور ينتج رموزا وتاريخا، هو تاريخ حقيقي، التاريخ المكتوب والمكتوب فقط هو تاريخ احتمالي، التاريخ ابن الوثائق، لا ابن الكلام. من أجل ذلك، عملت إسرائيل على إخفاء هذا الكم الهائل من الصور والأفلام والخرائط التي تحكي قصة شعب وتاريخه. ولم تتورّع إسرائيل عن التعامل مع محو هذه الذاكرة، كما تعاملت النازية مع محو الذاكرة اليهودية في ألمانيا. وهو ما تشير إليه سيلا نفسها عندما تقول: "كابنة لناجين من المحرقة، نشأتُ في منزلٍ بدون ذاكرة تاريخية فوتوغرافية. لا شيء على الإطلاق. يبدأ تاريخي بمقابلة والديّ بعضهما بعضا في عام 1950. لدينا صور من ذلك التاريخ وحسب، أما قبل ذلك، فلا شيء على الإطلاق. أعرف جيداً معنى ألا يكون لديك أي فكرةٍ عن شكل جدتك أو جدك، أو طفولة والدك. ويصح هذا أكثر على تاريخ شعب بكامله".
لذلك، ليس غريباً أن تكون صورتي البائسة التي صوّرتها وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (أونروا) لي، وأنا الطفل البائس في المدرسة الابتدائية في المخيم، أقف مدهوشا في الطابور أمام المصوّر، أحمل كأس الألمنيوم، وأنتظر دوري لملء الكأس بالحليب الذي لم أكن أحبه، وكانت توزعه مدارس "أونروا" على طلابها، والذي كنت مجبرا على شربه، مصنفةً في أرشيف الجيش الإسرائيلي، بأنها "مواد سرية". لأن صورتي، بوصفي لاجئاً فلسطينياً، ابن لاجئ، أنجبت لاجئين، شربت يوما من حليب "أونروا" السيئ، هذه الصورة تهز أسس دولة إسرائيل.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.