عندما تصحح الديمقراطية نفسها
فالمنظومة الديمقراطية عندما تكون سليمة، تشتغل مثل ماكينة متناسقة ومتناغمة، تصحح كل نشاز يطال أداءها، وأحياناً، يتم ذلك بطريقة تلقائية، لأن الثقافة الديمقراطية، عندما تكون متجذرة في المجتمع، فهي التي تنتصر على باقي التصرفات، وتقوم بتصحيح أغلب الانحرافات.
طريقة عمل هذه الماكينة سنكتشفه من خلال أداء الفاعلين داخل أجهزتها، وأهم هذه الأجهزة مجلس النواب الذي يعد بمثابة غرفة المراقبة التي يجب أن تنبه إلى وجود أي خللٍ، قد يطال أي جهاز من باقي الأجهزة داخل الماكينة نفسها. ففي تبريرها إصدار أضخم تقرير عن جهاز مخابرات دولتها، يعرّيها أمام العالم، ويكشف الكثير من أسرارها، أصرّت رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، التي أشرفت على إعداد التقرير، على حق الأميركيين بمعرفة تفاصيل عمل جهاز مخابراتهم، وطريقة تطبيق أحد أكثر البرنامج جدلاً في تاريخ هذه المخابرات، ما يعني أن خدمة الشعب في الأنظمة الديمقراطية تبقى، في نهاية المطاف، الغاية من النظام الديمقراطي نفسه، فسيادة الشعب هي المنطلق والمنتهى.
سيؤيد البيت الأبيض، الذي يمثل غرفة القيادة، نشر التقرير، وسيعتبر رئيسه ورئيس الدولة في الوقت نفسه، باراك أوباما، أن أساليب عمل جهاز مخابرات بلاده التي كشف عنها التقرير تعارض قيم الولايات المتحدة، بل وسيعترف بأنها أضرت كثيراً بمركز بلاده الدولي، وسيعد بعدم ممارستها مجددا!
أوباما، الذي تقع أجهزة المخابرات تحت إشراف إدارته، وفي لحظة اعتراف شجاعة، سيقر بأن جهاز مخابرات بلاده "شارك في أنشطة قاسية". ومع ذلك، لم يتستر عليه، أو يحاول تبرير تصرفاته المشينة، وإنما اعتبر ما جاء في التقرير "جزءاً من المحاسبة"، وهو كما قال أهم ما يميز قيم المجتمع الديمقراطي، وبتعبيره: "عندما نفعل شيئاً خطأ نعترف به".
أداء طرف ثالث معني بالتقرير بالدرجة الأولى، هو جهاز المخابرات المركزية، سيكشف لنا عن قدرة الماكينة الديمقراطية على ضبط كل أجهزتها عند عمليات "الصيانة" الكبرى. فقد تم إشراك رئيس جهاز المخابرات المركزية في المناقشات داخل لجنة مجلس الشيوخ التي أشرفت على إنجاز التقرير. وفتح جهاز المخابرات أرشيفه السري أمام أعضاء لجنة التحقيق، وعرض أمامهم ستة ملايين وثيقة سرية لفحصها والتدقيق في معطياتها. وعندما صدر التقرير لم يجامل محرروه أعتى جهاز مخابرات في العالم، ولم يخشوا ردة فعله، وهم الذين اطلعوا على أساليب انتقامه الخطيرة، وإنما أقروا بأنه "ضلل البيت الأبيض والكونغرس والشعب الأميركي" حول فاعلية البرنامج وطرق التعذيب، بل ووسموا عمله بالفشل، عندما أظهر التقرير أن المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال تنفيذ ذلك البرنامج، لم تؤد إلى إفشال أية عمليات إرهابية حقيقية.
وعندما رد مدير الاستخبارات المركزية على ما جاء في التقرير، اعترف، هو نفسه، بأن هناك عمليات سرية كثيرة، كان يتمنى أن تبقى طي الكتمان، كشف عنها التقرير، وفي هذا اعتراف بمدى استقلالية لجنة التحقيق التي لم يخضع أعضاؤها لابتزاز جهاز المخابرات النافذ والقوي أو إغرائه. وقد اعترف مدير الاستخبارات، أيضاً، بأن وكالته ارتكبت أخطاء في تعاملها مع المعتقلين، وصفها هو نفسه بالأعمال "الوحشية"، وبأن محققين استخدموا أساليب استجواب "مثيرة للاشمئزاز"، وغير مسموح بها، ووصف عملهم بالعمل "الخاطئ". وفي لحظة مكاشفة وتحمل المسؤولية، لا يمكن أن نشهدها إلا في الأنظمة الديمقراطية، سيقر رئيس وكالة الاستخبارات بأن ما جاء به التقرير "جزء من تاريخ الوكالة، ويجب أن نقر به"، بل واعتبر أن التقرير سيجعلهم يستفيدون من دروس الماضي، لمنع تكرار الأخطاء نفسها.
هذا الأداء المتناغم بين ثلاثة فاعلين رئيسيين داخل المنظومة الديمقراطية الأميركية ليس مجرد سيناريو محبك الإخراج، وأبعد ما يكون من المؤامرة التي تقودها لوبيات خفية، وإنما هو ردة فعل ذاتية، من داخل المنظومة نفسها عندما تحس بأنها في حاجة إلى صيانة أجهزتها أو تصحيح أدائها دورياً. لكن إصلاح أعطاب هذه المنظومة لن يكتمل بدون محاسبة. فلا جريمة بدون عقاب، ولا ديمقراطية مع الإفلات من العقاب. الديمقراطية تعني المحاسبة. لذلك، سيبقى التقرير على الرغم من أهميته وقوّته، ناقصاً إذا لم تتم المحاسبة القانونية للمسؤولين الأميركيين عن جرائم التعذيب التي ارتكبت.
نجحت الديمقراطية الأميركية، حتى الآن، في الاختبار الداخلي أمام رأيها العام، وهي، اليوم، أمام الاختبار الخارجي الذي يضعه أمامها القانون الدولي الذي يلزمها بإحالة المسؤولين الأميركيين الذين خططوا وأجازوا ونفذوا جرائم التعذيب التي تحدث عنها التقرير على القضاء. وإلّا يبقى هذا التقرير وكل ما صدر حوله من ردود أفعال مجرد عملية تسويق عامة ضخمة، لتجميل واجهة ماكينة مهترئة من الداخل.