03 اغسطس 2022
عندما يحرق لبناني نفسَه
مشهد سوريالي يلف هذه الأيام لبنان وعاصمته التي امتازت عقوداً بأنها عاصمة الحرية وحاضرة الثقافة والإبداع على ضفاف المتوسط. مشهد يُنذر بسحبٍ تتكدّس في سماء بيروت، وتهدد بتحويلها تدريجياً إلى بيروتاتٍ تذكّر بمناخٍ راح يسود عشية غرق لبنان في الحرب الأهلية عام 1975، ففي حين كان نواب الأمة ينشرون غسيل بعضهم، ويتبادلون تهم الفساد والفضائح والصفقات في مجلس النواب، خلال مناقشة البيان الوزاري للحكومة الجديدة أمام أعين الناس التي تشاهدهم على شاشات التلفزة، كان بعض آخر منهم يحتفل، على بعد مئات الأمتار، بمرور ثلاثين عاماً على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وأرسى السلم الأهلي، ويستذكرون السنة الرابعة عشرة لاغتيال رفيق الحريري أحد صنّاعه. وفي مشهدٍ ثالثٍ في طرف بيروت الشرقي، كان بعض نواب ومناصري حزبي "القوات اللبنانية"، و"الكتائب"، يتظاهرون احتجاجاً على قول نائبٍ من حزب الله إن بشير الجميل صعد إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية على متن دبابة إسرائيلية، وتفاخره (النائب) بانتخاب ميشال عون رئيساً "بفضل بندقية حزب الله". وهذا ما أثار حفيظة العونيين، وأحرجهم تجاه ما هو اعتراف من حزب الله بأنه يستعمل سلاحه في الشأن الداخلي اللبناني.
وبين هذه وتلك، كان التنافس على أشدّه بين طهران التي سارعت إلى إرسال وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، والرياض التي أوفدت مستشاراً في الديوان الملكي، وراح الاثنان يتجاذبان، خلال الساعات نفسها، طرفي الائتلاف السلطوي من أجل دفع القرار اللبناني إلى التموضع كلٌّ
إلى جانبه. ولكي يكتمل المشهد سورياليةً وبؤسا وقتامة، أقدم رجلٌ، رب عائلةٍ من شمال لبنان، على الانتحار بإحراق نفسه أمام مدرسة ابنته بسبب عجزه عن دفع أقساطها المدرسية. مأساة صادمة تدق ناقوس الخطر، وتفضح أصحاب السلطة والنفوذ والمتبارزين في المسرحية الفاشلة والبائسة التي يتم عرضها في مجلس النواب، وكذلك المتدخلين من الخارج بحثاً عن وصايةٍ، وتسلط الضوء على الدرك غير المسبوق الذي وصل إليه لبنان ووضع اللبنانيين. ولكنه لم يحظ لدى النواب، ممثلي الأمة، بأكثر من العواطف المعسولة وعبارات الترحم عليه والمواساة لعائلته.
حادثةٌ مأساويةٌ مثلها أدّت إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ أسقطت النظام في تونس، أو كان في وسعها أن تؤدي إلى استقالة حكومة أو على الأقل إلى اتخاذ إجراءات استثنائية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ولإيجاد فرص عمل. أما لبنان فيبدو غارقا في حالة انقسام وتصدّع عميق، يباعد بين الطبقة السياسية الفاقدة حدّا أدنى من المصداقية والناس الذين يعيشون جرّاء قرفهم حالة انفصامٍ حوّلتهم إلى لامبالين ويائسين وفاقدي القدرة على التحرّك للتعبير عن غضبهم، ومنهم كثيرون أعمى الشحن الطائفي والمذهبي واللعب على الغرائز بصيرته، ودفعه إلى التسليم بمشيئة قائده أو زعيمه الطائفي، على الرغم من كل شيء!
كان الموفد الإيراني أول الوافدين للمباركة في الحكومة الجديدة، وفي جعبته شبكة صواريخ للدفاع الجوي ومحطات لتوليد الكهرباء ومئات أنواع الأدوية، صنع في إيران، وكل ما يحتاجه لبنان للخروج من أزمته، كما وعد حسن نصرالله اللبنانيين.. وللاحتفال أيضا بالذكرى الأربعين للثورة الخمينية في بيروت بالذات، بعد أن أصبحت، باعتبار ملالي طهران، واحدة من العواصم العربية الأربع التي تسيطر عليها إيران. وأول خطوة لافتة قام بها ظريف كانت لقاءه مجموعة من الأحزاب والقوى الفلسطينية واللبنانية التي تدور في فلك حزب الله والنظام السوري، قبل أن يلتقي أيا من المسؤولين اللبنانيين، إلا أن أحدا ممن التقاهم لم يجرؤ على إعطائه وعدا بقبول عروضه الملائمة لخزينة الدولة المثقلة بالديون. وبقي سؤال يشغل لبنانيين كثيرين بشأن عدم نشر إيران شبكات الصواريخ التي حملها ظريف إلى لبنان في سورية للدفاع عن قواته ومواقعه ومليشيا حزب الله التي يقصفها العدو الإسرائيلي.
أما الموفد السعودي الذي وصل بعد الإيراني بأربع وعشرين ساعة فكان أكثر تواضعا، وجال على المسؤولين مهنئا، وأعلن عن إلغاء قرار حظر سفر السعوديين إلى لبنان المتخذ منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبشّر بإعادة تفعيل اللجنة المشتركة، ونحو عشرين مشروعا مشتركا. وحضر إحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري الذي أقامه تيار المستقبل، ما قد يؤشر إلى أن السعودية تنوي العودة إلى سلوك سياسةٍ أكثر براغماتية في التعاطي وعدم ترك الساحة للنفوذ الإيراني. وفي المقابل، وجه الموفد السعودي رسائل لافتة إلى الحلفاء قبل الخصوم بلقائه بعض وجوه تكتل 14 آذار وقياداته السابقة التي هي حاليا على خصام مع رئيس الحكومة، سعد الحريري، ومع زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع، والتي تجاهر بمواقفها الحازمة ضد الهيمنة الإيرانية وسلاح حزب الله وضد إشراكه أو الاشتراك معه في الحكومة نفسها.
وبين هذا وذاك، حل أمين عام جامعة الدول العربية، والتقى المسؤولين، من دون أن يشعر بوجوده أحد سوى عندما أعلن في مؤتمره الصحافي أنه ليس هناك من إجماع عربي على عودة النظام السوري إلى الجامعة.
وقد بات كل ما يجري على المسرح السياسي يهم فقط قلة من المعنيين بالشأن العام، وبعض المتابعين من الوسط الإعلامي، وبعض أوساط المراقبين من الخارج. أعادت الطبقة السياسية الحالية اللبنانيين إلى الماضي، وأغرقتهم مجدّدا في أدبياته وآفاته وتعيد تذكيرهم بمآسيه. هذا إذا سلمنا جدلا بأنه تم الخروج أو التطهر من الماضي وحروبه.. استحضار لغة الحرب والتذكير شبه الدائم بغلبة فريقٍ على آخر، وببعض الوقائع والرموز، استفزازا لطرفٍ ضد آخر، كما حصل عندما نعت نواب من حزب الله الرئيس الذي انتخب صيف 1982، بشير الجميل، بالعمالة لإسرائيل، أو حتى التباهي بقوة السلاح والاستقواء به على الشريك في الداخل، يعيد بدون شك تأجيج حساسيات الماضي وينكأ الجراح. وعند كل أول استفزاز أو كلام من هذا النوع، تتحرّك الغرائز والعصبيات! وقد طوى اتفاق الطائف صفحة الحرب البغيضة، وأعاد
تركيب السلطة، مرتكزا على مفهوم "قوة التوازن" وليس توازن القوى، وثبت المناصفة في التمثيل بين مختلف الطوائف والجماعات الدينية، ورسم مسارا متدرّجا للخروج من الطائفية والمذهبية إلى رحاب التمثيل المدني خارج القيد الطائفي، إلا أن زعماء المليشيات السابقين الممسكين اليوم بزمام السلطة لم يشاءوا تطبيق بنود الاتفاق، وكان السبب في الماضي الوصاية السورية، ولعب النظام الأسدي المستمر على التناقضات السياسية والطائفية، واستزلام بعض السلطة له نحو ثلاثة عقود. أما اليوم، وقد مضى على خروج الجيش السوري 14 عاما، فلم يُبادر أي طرفٍ للسير في إصلاحات "الطائف". لا بل هناك من يسعى إلى إعادة الاصطفاف السياسي – المذهبي، وجعل الحكم صراعا على الحصص والمغانم. وفي كل مرةٍ، تتحرك مجموعة من خارج الطبقة السياسية وأطراف السلطة يتم تطويقها وإجهاضها، عبر إعطائها صبغة سياسية أو طائفية معينة بهدف استحضار أو استعداء طائفة أو حزب مقابل.
وفي كل المحطات المفصلية التي تطرح فيها مسألة إصلاح جدي، يكون أول المتصدّين حزب الله، بحجة أن المتحرّكين أو ما هو مطروح يستهدف "المقاومة وسلاحها"، وفي بعض الحالات يُرمى المبادرون بالعمالة. علما أن سلاح حزب الله، بما هو سلاح خارج سلطة الدولة وقرارها وقدرتها على فرض نفوذها، هو العقبة الأساسية لقيام الدولة، وتنفيذ أي عملية إصلاح. وضمن هذه الدائرة شبه المغلقة، تتم عملية نهب الدولة، ويتقاسم السياسيون الحصص ويمرّرون الصفقات ويهدرون المال العام. وبطبيعة الحال، هذه الخلطة من الانسداد السياسي والنهب الاقتصادي لا بد أن تدفع رب عائلة عاطلا عن العمل إلى إحراق نفسه!
حادثةٌ مأساويةٌ مثلها أدّت إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ أسقطت النظام في تونس، أو كان في وسعها أن تؤدي إلى استقالة حكومة أو على الأقل إلى اتخاذ إجراءات استثنائية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ولإيجاد فرص عمل. أما لبنان فيبدو غارقا في حالة انقسام وتصدّع عميق، يباعد بين الطبقة السياسية الفاقدة حدّا أدنى من المصداقية والناس الذين يعيشون جرّاء قرفهم حالة انفصامٍ حوّلتهم إلى لامبالين ويائسين وفاقدي القدرة على التحرّك للتعبير عن غضبهم، ومنهم كثيرون أعمى الشحن الطائفي والمذهبي واللعب على الغرائز بصيرته، ودفعه إلى التسليم بمشيئة قائده أو زعيمه الطائفي، على الرغم من كل شيء!
كان الموفد الإيراني أول الوافدين للمباركة في الحكومة الجديدة، وفي جعبته شبكة صواريخ للدفاع الجوي ومحطات لتوليد الكهرباء ومئات أنواع الأدوية، صنع في إيران، وكل ما يحتاجه لبنان للخروج من أزمته، كما وعد حسن نصرالله اللبنانيين.. وللاحتفال أيضا بالذكرى الأربعين للثورة الخمينية في بيروت بالذات، بعد أن أصبحت، باعتبار ملالي طهران، واحدة من العواصم العربية الأربع التي تسيطر عليها إيران. وأول خطوة لافتة قام بها ظريف كانت لقاءه مجموعة من الأحزاب والقوى الفلسطينية واللبنانية التي تدور في فلك حزب الله والنظام السوري، قبل أن يلتقي أيا من المسؤولين اللبنانيين، إلا أن أحدا ممن التقاهم لم يجرؤ على إعطائه وعدا بقبول عروضه الملائمة لخزينة الدولة المثقلة بالديون. وبقي سؤال يشغل لبنانيين كثيرين بشأن عدم نشر إيران شبكات الصواريخ التي حملها ظريف إلى لبنان في سورية للدفاع عن قواته ومواقعه ومليشيا حزب الله التي يقصفها العدو الإسرائيلي.
أما الموفد السعودي الذي وصل بعد الإيراني بأربع وعشرين ساعة فكان أكثر تواضعا، وجال على المسؤولين مهنئا، وأعلن عن إلغاء قرار حظر سفر السعوديين إلى لبنان المتخذ منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبشّر بإعادة تفعيل اللجنة المشتركة، ونحو عشرين مشروعا مشتركا. وحضر إحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري الذي أقامه تيار المستقبل، ما قد يؤشر إلى أن السعودية تنوي العودة إلى سلوك سياسةٍ أكثر براغماتية في التعاطي وعدم ترك الساحة للنفوذ الإيراني. وفي المقابل، وجه الموفد السعودي رسائل لافتة إلى الحلفاء قبل الخصوم بلقائه بعض وجوه تكتل 14 آذار وقياداته السابقة التي هي حاليا على خصام مع رئيس الحكومة، سعد الحريري، ومع زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع، والتي تجاهر بمواقفها الحازمة ضد الهيمنة الإيرانية وسلاح حزب الله وضد إشراكه أو الاشتراك معه في الحكومة نفسها.
وبين هذا وذاك، حل أمين عام جامعة الدول العربية، والتقى المسؤولين، من دون أن يشعر بوجوده أحد سوى عندما أعلن في مؤتمره الصحافي أنه ليس هناك من إجماع عربي على عودة النظام السوري إلى الجامعة.
وقد بات كل ما يجري على المسرح السياسي يهم فقط قلة من المعنيين بالشأن العام، وبعض المتابعين من الوسط الإعلامي، وبعض أوساط المراقبين من الخارج. أعادت الطبقة السياسية الحالية اللبنانيين إلى الماضي، وأغرقتهم مجدّدا في أدبياته وآفاته وتعيد تذكيرهم بمآسيه. هذا إذا سلمنا جدلا بأنه تم الخروج أو التطهر من الماضي وحروبه.. استحضار لغة الحرب والتذكير شبه الدائم بغلبة فريقٍ على آخر، وببعض الوقائع والرموز، استفزازا لطرفٍ ضد آخر، كما حصل عندما نعت نواب من حزب الله الرئيس الذي انتخب صيف 1982، بشير الجميل، بالعمالة لإسرائيل، أو حتى التباهي بقوة السلاح والاستقواء به على الشريك في الداخل، يعيد بدون شك تأجيج حساسيات الماضي وينكأ الجراح. وعند كل أول استفزاز أو كلام من هذا النوع، تتحرّك الغرائز والعصبيات! وقد طوى اتفاق الطائف صفحة الحرب البغيضة، وأعاد
وفي كل المحطات المفصلية التي تطرح فيها مسألة إصلاح جدي، يكون أول المتصدّين حزب الله، بحجة أن المتحرّكين أو ما هو مطروح يستهدف "المقاومة وسلاحها"، وفي بعض الحالات يُرمى المبادرون بالعمالة. علما أن سلاح حزب الله، بما هو سلاح خارج سلطة الدولة وقرارها وقدرتها على فرض نفوذها، هو العقبة الأساسية لقيام الدولة، وتنفيذ أي عملية إصلاح. وضمن هذه الدائرة شبه المغلقة، تتم عملية نهب الدولة، ويتقاسم السياسيون الحصص ويمرّرون الصفقات ويهدرون المال العام. وبطبيعة الحال، هذه الخلطة من الانسداد السياسي والنهب الاقتصادي لا بد أن تدفع رب عائلة عاطلا عن العمل إلى إحراق نفسه!