في سنة 2011، أصدر الناقد المصري محمّد شعير كتاباً بعنوان "كتابات نوبة الحراسة"، يضمّ رسائل عبد الحكيم قاسم، الروائي الذي رحل عن خمسة وخمسين عاماً سنة 1990، صاحب "أيام الإنسان السبعة"، الذي يُعدّ من أبرز أدباء جيل ستينيات القرن العشرين الفائت في مصر، وكان كتبها أثناء فترة اغترابه في ألمانيا خلال السنوات 1974 ـ 1985. فقد سافر قاسم إلى ألمانيا سنة 1974 للمشاركة في ندوة أدبية، لكنه بقي فيها إحدى عشرة سنة عاشها في برلين، وشرع في الإعداد لأطروحة دكتوراه عن الأدب المصري، وأساساً عن "جيل الستينيات" المتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعلى دور "الآباء"، أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، لكن سرعان ما أخذته مشاغل الحياة في برلين وظل يلهث وراء لقمة العيش إلى أن عاد إلى مصر خالي الوفاض سنة 1985.
في مناسبة ظهور هذا الكتاب، ثار في الصحافة الثقافية جدلٌ عام حول أدب الرسائل وثقافة البوح في سيرورات المجتمعات العربية، أشير فيه من ضمن أمور كثيرة أخرى، إلى أن إحدى سمات تلك الرسائل تتمثل باختلاط العامّ بالخاص في نطاق كتابة متحرّرة تبدأ من الأمور الشخصية ولا تقفز عن الحديث حول الهم العام.
وللنمذجة على ذلك تحديداً، نشير إلى أنه في إحدى الرسائل التي كتبت بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982)، كتب قاسم: "إنني الآن أدرك كيف أنني عشت العمر كلّه أواجه في وطني قهراً حقيقياً وإذلالاً حقيقياً، وأعيش مع ناسي مقاومة غير جادة، وثورة مغشوشة، وحماسة مدخولة. العمر كلّه أمشي في تظاهرات، وأحضر اجتماعات، وأسمع خطابات.. تلك نهاية جيلنا، جيل فشل نهائياً، وعلى كلّ المستويات، وبعد الانتصار الإسرائيلي، سيكون على نطاق العالم وضعٌ شاذ مؤدّاه إذلال أمّة كاملة في كلّ مكان".
واعتبر شعير أن هذا الكتاب ليس "سيرة للكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم، بقدر ما هي سيرة جيل بأكمله، جيل الأحلام المسروقة، إذ تعكس الرسائل الجو الأدبي الذي نشأ وتكوّن فيه جيل الستينيات، واللحظات الصعبة التي عاشها، خصوصاً بعد كامب ديفيد، مروراً بغزو بيروت وحرب الخليج الأولى... وكلّ هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقاً سياسياً واجتماعياً لهذا الجيل وليس فقط لصاحبها".
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
لفت شعير كذلك إلى أن الثقافة العربية ما تزال ربما أسيرة نظرة تقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، قصة، قصيدة)، بينما لا تعطي مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل التي تعتبرها هامشية. ومع ذلك، لا بُدّ من القول إن هناك استثناءات قليلة. من هذه الاستثناءات مراسلات محمّد برادة مع محمّد شكري.
ومعروف أن هذا الأخير أوقف نصَّه على هتك ستائر وأحجبة عن أدب البوح، جاعلاً إيَّاه يحلّق في فضاءات لم تكن مألوفة في الأدب العربي المعاصر.
وقد صدرت هذه المراسلات في كتاب حمل عنوان "ورد ورماد" سنة 2000، بموازة صدور كتاب جديد لشكري، بعنوان "وجوه" يشكّل، حسب قوله، الجزء الثالث من سيرته الذاتية، "لكنه مكتوب بطريقتي الخاصة ولا يخضع للطريقة التقليدية ولا لتقنيات كتابة السيرة الذاتية المتبعة لدى الآخرين، فكتابتي تتخللها اليوميات والصور الدقيقة، وهي لا تعتمد على بطل محدّد بل تركّز على وجوه مستقلة، كل واحد قد لا يلتقي بالوجه الآخر، وهي وجوه مغربية أو أجنبية".
ضمّ "ورد ورماد" رسائل متبادلة بين برادة وشكري في الفترة ما بين 1975 و1994.
وفي "إشارة" تصدير هذه الرسائل، كتب برادة في ما كتب: "... أظنّ أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع. وللأسف أن تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إن لم تكن منعدمة. ومن ثم وجدت، ومعي الصديق شكري، أن نشر هذه الرسائل قد تكون مضيئة لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخَاض، وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النصّ الإبداعي".
هكذا فعلاً...
لكن مهما تكن الملامح التي يقول بها برادة، فإننا نقرأ في إحدى رسائل شكري المقولة التالية: "من لم ينغمس في دم الحياة، لا يحقّ له أن يتكلم عن الجرح".
وتنطوي هذه المقولة على مفتاح مهمّ لمحاولة فهم العالم الذي يبنيه الكاتب لنفسه ولنا جميعاً، وبالأخص في الجزء الأوّل من سيرته الذاتية "الخبز الحافي". ففي هذا الكتاب الذي بشَّر بشكري واعتبر تكريساً لظاهرة كتابته، نصادف توصيفاً خشناً، صادماً وموجعاً، لجراح الماضي التي لم تلتئم ـ ذلك الماضي الذي لا يتعلّق به الكاتب "إلا عندما يخونني حاضري"، كقوله في رسالة أخرى. ينسحب ذلك على جراحه الخاصة، بقدر ما ينسحب على الجراح العامة لمدينته (طنجة) ولوطنه (المغرب).
في مناسبة ظهور هذا الكتاب، ثار في الصحافة الثقافية جدلٌ عام حول أدب الرسائل وثقافة البوح في سيرورات المجتمعات العربية، أشير فيه من ضمن أمور كثيرة أخرى، إلى أن إحدى سمات تلك الرسائل تتمثل باختلاط العامّ بالخاص في نطاق كتابة متحرّرة تبدأ من الأمور الشخصية ولا تقفز عن الحديث حول الهم العام.
وللنمذجة على ذلك تحديداً، نشير إلى أنه في إحدى الرسائل التي كتبت بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982)، كتب قاسم: "إنني الآن أدرك كيف أنني عشت العمر كلّه أواجه في وطني قهراً حقيقياً وإذلالاً حقيقياً، وأعيش مع ناسي مقاومة غير جادة، وثورة مغشوشة، وحماسة مدخولة. العمر كلّه أمشي في تظاهرات، وأحضر اجتماعات، وأسمع خطابات.. تلك نهاية جيلنا، جيل فشل نهائياً، وعلى كلّ المستويات، وبعد الانتصار الإسرائيلي، سيكون على نطاق العالم وضعٌ شاذ مؤدّاه إذلال أمّة كاملة في كلّ مكان".
واعتبر شعير أن هذا الكتاب ليس "سيرة للكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم، بقدر ما هي سيرة جيل بأكمله، جيل الأحلام المسروقة، إذ تعكس الرسائل الجو الأدبي الذي نشأ وتكوّن فيه جيل الستينيات، واللحظات الصعبة التي عاشها، خصوصاً بعد كامب ديفيد، مروراً بغزو بيروت وحرب الخليج الأولى... وكلّ هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقاً سياسياً واجتماعياً لهذا الجيل وليس فقط لصاحبها".
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
لفت شعير كذلك إلى أن الثقافة العربية ما تزال ربما أسيرة نظرة تقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، قصة، قصيدة)، بينما لا تعطي مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل التي تعتبرها هامشية. ومع ذلك، لا بُدّ من القول إن هناك استثناءات قليلة. من هذه الاستثناءات مراسلات محمّد برادة مع محمّد شكري.
ومعروف أن هذا الأخير أوقف نصَّه على هتك ستائر وأحجبة عن أدب البوح، جاعلاً إيَّاه يحلّق في فضاءات لم تكن مألوفة في الأدب العربي المعاصر.
وقد صدرت هذه المراسلات في كتاب حمل عنوان "ورد ورماد" سنة 2000، بموازة صدور كتاب جديد لشكري، بعنوان "وجوه" يشكّل، حسب قوله، الجزء الثالث من سيرته الذاتية، "لكنه مكتوب بطريقتي الخاصة ولا يخضع للطريقة التقليدية ولا لتقنيات كتابة السيرة الذاتية المتبعة لدى الآخرين، فكتابتي تتخللها اليوميات والصور الدقيقة، وهي لا تعتمد على بطل محدّد بل تركّز على وجوه مستقلة، كل واحد قد لا يلتقي بالوجه الآخر، وهي وجوه مغربية أو أجنبية".
ضمّ "ورد ورماد" رسائل متبادلة بين برادة وشكري في الفترة ما بين 1975 و1994.
وفي "إشارة" تصدير هذه الرسائل، كتب برادة في ما كتب: "... أظنّ أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع. وللأسف أن تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إن لم تكن منعدمة. ومن ثم وجدت، ومعي الصديق شكري، أن نشر هذه الرسائل قد تكون مضيئة لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخَاض، وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النصّ الإبداعي".
هكذا فعلاً...
لكن مهما تكن الملامح التي يقول بها برادة، فإننا نقرأ في إحدى رسائل شكري المقولة التالية: "من لم ينغمس في دم الحياة، لا يحقّ له أن يتكلم عن الجرح".
وتنطوي هذه المقولة على مفتاح مهمّ لمحاولة فهم العالم الذي يبنيه الكاتب لنفسه ولنا جميعاً، وبالأخص في الجزء الأوّل من سيرته الذاتية "الخبز الحافي". ففي هذا الكتاب الذي بشَّر بشكري واعتبر تكريساً لظاهرة كتابته، نصادف توصيفاً خشناً، صادماً وموجعاً، لجراح الماضي التي لم تلتئم ـ ذلك الماضي الذي لا يتعلّق به الكاتب "إلا عندما يخونني حاضري"، كقوله في رسالة أخرى. ينسحب ذلك على جراحه الخاصة، بقدر ما ينسحب على الجراح العامة لمدينته (طنجة) ولوطنه (المغرب).