06 نوفمبر 2024
عن الإصلاح والثورة
تدل أكثر الدراسات التي تناولت الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني المعاصر على أن معظمها، إن لم يكن كلها، بدأت بمحاولات إصلاح أو تحديث من الأعلى، أي من قمة هرم النظام السياسي. وينطبق هذا الكلام على الثورة الفرنسية، حيث يذهب أكثر المؤرخين إلى أن الإصلاحات التي أدخلها الملك لويس الخامس عشر (1715 ـ 1774) لعبت دورا رئيسا في اندلاع ثورة 1789، كما ينطبق على الثورة الصينية (1911) والروسية (1917) والإيرانية (1979)، وعلى الإصلاحات التي أدخلها آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف (1985 ـ 1991)، وأدت، في نهاية المطاف، إلى انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وبقية دول أوروبا الشرقية، وصولا إلى الثورة السورية (2011). ويمكن توقع مسارٍ مشابه في السعودية، حيث أطلق ولي العهد، محمد بن سلمان، حزمةً من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي يرجّح، بناء على التجارب السابقة، أن تنتهي بثورة، إلا إذا واكبتها إصلاحاتٌ سياسيةٌ كبيرةٌ، تحول دون ذلك.
وتأتي الإصلاحات التي تبدأها النظم السلطوية عادة نتيجة أزمةٍ بنيوية، يغدو معها الاستمرار في تبنّي السياسيات القديمة غير ممكن، ما يدفع إلى تبنّي سياساتٍ بديلةٍ تعتقد النخب الحاكمة أنها تؤمن لها الاستمرار، في حين أنها تفتح ثغرةً في جدار نظام الاستبداد، تستمر في التوسع حتى تخرج الأمور عن نطاق السيطرة. ومن بين التجارب المشار إليها أعلاه، تبقى التجربة الإيرانية الأكثر وضوحا وحدّة، ربما، في بيان علاقة التحديث والإصلاح بالثورة، فبعد أن ثبّت، بمساعدة الأميركيين، دعائم سلطته، عقب إطاحة حكومة رئيس الوزراء المعارض، محمد مصدق، عام 1953، أطلق الشاه في مطلع الستينيات ما أسماها "الثورة البيضاء"، وهي حزمة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، كان الهدف منها نقل المجتمع الإيراني من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع حديث أكثر انفتاحا وتعليما. مرّر الشاه، بناء عليه، قوانين ولوائح تتعارض مع عادات المجتمع وتقاليده وثقافته، كما ضيّق على الحوزات والمرجعيات الدينية. في المقابل، قام بتعزيز دعائم سلطته، وإضعاف مؤسسات المجتمع الأهلي، وفي مقدمها البازار. أثارت هذه السياسات نقمةً بين قوى المجتمع المحافظ، وتولت الحوزة الدينية عملية المقاومة، والحشد والتعبئة الشعبية، وأخذت تهاجم الشاه، بسبب استسلامه للضغوط الغربية، وتبني طرق حياة وإدارة غريبة على المجتمع.
ترافقت المقاومة مع أزمة اقتصادية خانقة استشرى خلالها الغلاء، وتصاعد التضخم، وساءت أحوال الناس المعيشية في وقتٍ استمر فيه الشاه وحاشيته في ممارسة أسلوب حياتهم الباذخ من دون اكتراثٍ بهموم الناس، خصوصا عندما أقام عام 1971 احتفالاتٍ عظيمة بمناسبة مرور 2500 عام على قيام الإمبراطورية الأخمينية، فازدادت النقمة وتصاعد الغليان. وبخلاف وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين الثورة ومؤشر الفقر والحرمان، لوحظ أن الفجوة بين الأكثر غنى والأكثر فقرا تتسع في فترات الإصلاح والتحديث، لأن قلةً من الناس يكون لديها الكفاية والاستعداد لمواكبة السياسات الجديدة والاستفادة منها. وإذا فشلت النخب الحاكمة في تحقيق الأهداف المرجوّة من عملية التحديث والإصلاح وإعادة الهيكلة، يتولد رد فعل شعبي يكون، على الأرجح، عنيفا، ويأتي على شكل احتجاجات كبرى. وإذا اقترنت الصعوبات الاقتصادية وعملية التحديث بقيادة سياسية غير كفؤة يزداد احتمال الثورة والعنف.
أما النظام السياسي الذي ينتج عن الثورة فيرتبط أيضا بمنطلقها، فإذا انطلقت الثورة من الأدنى إلى الأعلى، فالأرجح أن ينتج عنها حكومة ذات ميول يسارية (روسيا والصين) أو دينية (إيران ومصر بعد ثورة يناير). أما إذا جاءت الثورة من الأعلى إلى الأدنى فتكون ذات ميول فاشية (تركيا في عهد أتاتورك)، وإذا جاءت بالتوافق بين النخب ومختلف القوى الاجتماعية تكون على الأرجح ديموقراطية (كما حصل في تونس).
يبقى أن هناك تجارب تتحدى بعض هذه المقولات، فالنموذج الصيني ما زال يثير نقاشا كثيرا، ذلك أن الإصلاحات التي بدأها دينغ سياو بينغ عام 1978، وعمد من خلالها إلى القطع مع إرث ماو تسي تونغ لم تؤد حتى الآن إلى ثورة، لكن هذا لا يعني أن هذا لن يحصل في المستقبل، إذا لم تواكبها إصلاحاتٌ سياسيةٌ تحول دون ذلك.
وتأتي الإصلاحات التي تبدأها النظم السلطوية عادة نتيجة أزمةٍ بنيوية، يغدو معها الاستمرار في تبنّي السياسيات القديمة غير ممكن، ما يدفع إلى تبنّي سياساتٍ بديلةٍ تعتقد النخب الحاكمة أنها تؤمن لها الاستمرار، في حين أنها تفتح ثغرةً في جدار نظام الاستبداد، تستمر في التوسع حتى تخرج الأمور عن نطاق السيطرة. ومن بين التجارب المشار إليها أعلاه، تبقى التجربة الإيرانية الأكثر وضوحا وحدّة، ربما، في بيان علاقة التحديث والإصلاح بالثورة، فبعد أن ثبّت، بمساعدة الأميركيين، دعائم سلطته، عقب إطاحة حكومة رئيس الوزراء المعارض، محمد مصدق، عام 1953، أطلق الشاه في مطلع الستينيات ما أسماها "الثورة البيضاء"، وهي حزمة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، كان الهدف منها نقل المجتمع الإيراني من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع حديث أكثر انفتاحا وتعليما. مرّر الشاه، بناء عليه، قوانين ولوائح تتعارض مع عادات المجتمع وتقاليده وثقافته، كما ضيّق على الحوزات والمرجعيات الدينية. في المقابل، قام بتعزيز دعائم سلطته، وإضعاف مؤسسات المجتمع الأهلي، وفي مقدمها البازار. أثارت هذه السياسات نقمةً بين قوى المجتمع المحافظ، وتولت الحوزة الدينية عملية المقاومة، والحشد والتعبئة الشعبية، وأخذت تهاجم الشاه، بسبب استسلامه للضغوط الغربية، وتبني طرق حياة وإدارة غريبة على المجتمع.
ترافقت المقاومة مع أزمة اقتصادية خانقة استشرى خلالها الغلاء، وتصاعد التضخم، وساءت أحوال الناس المعيشية في وقتٍ استمر فيه الشاه وحاشيته في ممارسة أسلوب حياتهم الباذخ من دون اكتراثٍ بهموم الناس، خصوصا عندما أقام عام 1971 احتفالاتٍ عظيمة بمناسبة مرور 2500 عام على قيام الإمبراطورية الأخمينية، فازدادت النقمة وتصاعد الغليان. وبخلاف وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين الثورة ومؤشر الفقر والحرمان، لوحظ أن الفجوة بين الأكثر غنى والأكثر فقرا تتسع في فترات الإصلاح والتحديث، لأن قلةً من الناس يكون لديها الكفاية والاستعداد لمواكبة السياسات الجديدة والاستفادة منها. وإذا فشلت النخب الحاكمة في تحقيق الأهداف المرجوّة من عملية التحديث والإصلاح وإعادة الهيكلة، يتولد رد فعل شعبي يكون، على الأرجح، عنيفا، ويأتي على شكل احتجاجات كبرى. وإذا اقترنت الصعوبات الاقتصادية وعملية التحديث بقيادة سياسية غير كفؤة يزداد احتمال الثورة والعنف.
أما النظام السياسي الذي ينتج عن الثورة فيرتبط أيضا بمنطلقها، فإذا انطلقت الثورة من الأدنى إلى الأعلى، فالأرجح أن ينتج عنها حكومة ذات ميول يسارية (روسيا والصين) أو دينية (إيران ومصر بعد ثورة يناير). أما إذا جاءت الثورة من الأعلى إلى الأدنى فتكون ذات ميول فاشية (تركيا في عهد أتاتورك)، وإذا جاءت بالتوافق بين النخب ومختلف القوى الاجتماعية تكون على الأرجح ديموقراطية (كما حصل في تونس).
يبقى أن هناك تجارب تتحدى بعض هذه المقولات، فالنموذج الصيني ما زال يثير نقاشا كثيرا، ذلك أن الإصلاحات التي بدأها دينغ سياو بينغ عام 1978، وعمد من خلالها إلى القطع مع إرث ماو تسي تونغ لم تؤد حتى الآن إلى ثورة، لكن هذا لا يعني أن هذا لن يحصل في المستقبل، إذا لم تواكبها إصلاحاتٌ سياسيةٌ تحول دون ذلك.