عن الضم الرحيم
هل تراجع رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن خطة ضم غور الأردن وأجزاء من الضفة الغربية المحتلة؟ وهل خضع اليمين الإسرائيلي للضغوط الداخلية والخارجية، وتخلى فعلاً عن تطبيق خطط الضم إلى أجل غير مُسمى، أم أن كل ما يجري مجرد تغيير في تكتيكات تطبيق خطط الضم، من دون أي تغيير في الأهداف النهائية كما وردت في مشروع نتنياهو – ترامب؟ الأكيد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يتراجع عن دعم صديقه نتنياهو، بما في ذلك دعمه في مسألة الضم، ولكنه غير مرتاح لترتيبات إعلان الضم وفق مهرجان احتفالي في تاريخ اعتباطي، حدّده نتنياهو يوم 1 من شهر يوليو/ تموز 2020، من دون أن تكون هناك خطط احترازية تحول دون تقويض السلطة الفلسطينية واندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة.
بالنظر إلى السطح، يبدو أن الخطة قد دخلت في حالة من "الجمود السياسي"، بتعبير الإعلام الإسرائيلي، ولا سيما أن موعد الشروع في إجراءات الضم، مطلع الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، قد اصطدم بعقباتٍ إسرائيلية محلية، إلى جانب رغبة إقليمية تمنّت على نتنياهو عدم المضي في خطته، وضغط أوروبي، غير وازن، وظروف أميركية غير متوقعة، ناجمة عن تفشي وباء كورونا، وما صاحب ذلك من ضغوط سياسية واقتصادية على إدارة ترامب، وعلى المستقبل السياسي للرئيس المُقبل على استحقاق انتخابي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
في المقابل، وعلى خلاف ما يروج في الإعلام الإسرائيلي عن تجميد خطة الضم، تكشف الحقائق على الأرض عن تجاهل نتنياهو الاعتراضات الأميركية على تنفيذ خطة ضمّ المستوطنات المُقامة على أراضي الضفة الغربية إلى سيطرته، والبدء فعلياً بتنفيذها في مناطق متفرّقة من الضفة الغربية، بعيداً من الإعلان الرسمي، واستناداً إلى قرارٍ صادرٍ عن مجلس المستوطنات الأعلى، يعطي الضوء الأخضر للمستوطنين ببدء المعركة وفرض واقع ميداني جديد، يتعدّى خريطة الضمّ الإسرائيلية وخريطة الدولة الفلسطينية في الخطة الأميركية. وبحسب تقارير منسوبة للجنة العامة للدفاع عن الأراضي الفلسطينية وسكان منطقة الأغوار، أدخلت إسرائيل خطة الضمّ حيّز التنفيذ، وبدأت من الأغوار، إذ أزاحت الكتل الإسمنتية التي تفصل بين مناطق "أ" و"ب" و"ج"، ووضعت يافطاتٍ كُتب عليها "هذه المناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، اقتراب الفلسطيني منها قد يعرّضه للخطر"، وفي مدينة بيت لحم، استولت إسرائيل على 700 دونم زراعي في محيط جبل الفرديس، ومنعت الفلسطينيين من دخولها. وفي المدينة ذاتها، جرفت الآليات الإسرائيلية مساحاتٍ من أراضي قرية الكيسان، لصالح توسيع حدود مستوطنة ايبي هناحل.
بعبارة أخرى، قد يكون الضغط الذي واجهه نتنياهو قد أحدث تغييرات شكلية في مراسم تنفيذ خطط الضم، بإلغاء الاستعراض الاحتفالي، واستبدال الضم الخشن بضم رحيم ناعم، يلبي رغبات نتنياهو وحلفائه في الداخل، بما في ذلك تحالف "أزرق أبيض" بزعامة بيني غانتس، مع الحفاظ على "الاستقرار السياسي" في إسرائيل، ويحفظ ماء وجه حلفاء إسرائيل الإقليميين، ويخفف الضغط عن الرئيس ترامب، من دون أن يُثني إسرائيل عن ضم ما تشاء من أراضي الضفة الغربية.
بموازاة إجراءات القضم للأراضي الفلسطينية، اختار نتنياهو أيضا تنفيس أي غضبٍ مُحتمل للشارع الفلسطيني، عبر إجراءات التفافية مفاجئة سمحت لآلاف من فلسطينيي الضفة الغربية بالتدفق عبر فتحات في الجدار الفاصل بين الضفة وإسرائيل، والوصول إلى شواطئ حيفا ويافا وتل أبيب للاستجمام فيها. وفي ذلك أراد نتنياهو ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. أولاً، إضعاف السلطة الفلسطينية الضعيفة أساساً، وإعادة الرئيس الفلسطيني بالعصا أو الجزرة إلى بيت الطاعة، وإفشال قرارات وقف التنسيق الأمني. ثم تجديد وعي الفلسطيني، بدلاً من كيه، ليتعايش مع إسرائيل الجارة، مصدر رزقه ووجهة رفاهية أولاده.
مرة أخرى، يُغير الاحتلال من جلده دون التخلي عن جوهره الإحلالي الاستيطاني، وعندما تقتضي المصلحة العامة، يقبل نتنياهو، المُولع بالاستعراض، بالضم الرحيم الصامت بدلاً من الضم الخشن الصاخب، طالما في كلاهما ضمان لتمدّد إسرائيل.