04 أكتوبر 2024
عن العيد في مصر
كانت الأعياد أيام الفرحة للجميع، ربما لأننا كنا صغارا لا نشغل بالنا بمشاغل الكبار ومشكلاتهم، ولكن الكبار وقتها لم يكونوا بمثل الكآبة التي نحن عليها الآن. كنا نحرص على أن يكون العيد ممتلئا بالمرح والفسح والنزه، كنا نضجر من رغبة الكبار في الجلوس والحكي ومقابلة الأقارب والسؤال عن الأحوال وحكايات الماضي وأخبار مَن سافر ومن جاء وذهب. كان الأطفال يحاولون تجميع أنفسهم للخروج إلى المتنزهات والسينمات، أو إلى شاطئ البحر.
عندما كبرنا قليلا، وأصبح هناك تباعد بين الأصدقاء والأقارب بسبب المسافات والسفر ومشاغل الحياة، أصبح العيد موعد اللقاء مع الأقارب وملاقاة الأصدقاء وزملاء الدراسة الذين باعدت بينهم ظروف الحياة. العيد مناسبة سعيدة ينتظرها الجميع. ومع تقدم السن، أصبحنا نتجنّب الخروج في زحام العيد. وفي الشوارع المزدحمة الصاخبة في العيد لم تعد جذّابة كما كانت عندما كنّا صغارا، بل أصبحت مصدرا للتوتر والضجر. يزداد الزحام في مصر كل يوم بسبب الزيادة السكانية وعشوائية التخطيط، يقضى الشباب والكبار العيد في المنازل والزيارات، فالتنزه مع الأسرة في الحدائق والمتنزهات أصبح مغامرةً محفوفة بالمخاطر بسبب الزحام والتحرش. شوارع العيد للأطفال وليست للكبار، هكذا كنّا نقول، المقاهي والشوارع ودور عرض أفلام السنيما مكتظة بالأطفال والمراهقين.
زيارة المقابر أيضاً من العادات المصرية الأصيلة، خصوصاً في الأرياف والصعيد وخارج القاهرة. تذكر الأحباب والدعاء لهم على رأس القبر من العادات المصرية المهمة. في الأعياد يتوجه الملايين لزيارة المقابر في مصر بعد صلاة العيد. إلقاء السلام على الأموات وقراءة القرآن الكريم، مشاعر الرثاء واستشعار هيبة الموت، محاولة مؤانستهم في وحدتهم داخل القبر. ومن العار الكبير أن يتناسى المرء زيارة أهله في القبور فترات طويلة، ومن المهم زيارة الموتى في العيد كما نزور الأحياء.
ولكن استجدت زيارات أخرى في مصر لا تقل أهمية عن زيارة المقابر، وإن كانت أكثر حزنا وكآبة وثقلا. إنها زيارة الأحباب خلف أسوار السجون والمعتقلات، انتظار ساعات طويلة في الشمس الحارقة خارج السجن، حتى يحين الدور، وكثيرا ما يكون الأهل من خارج المحافظة المسجون بها الابن فيقضون ساعات طويلة وشاقة في السفر والانتقال، ليتم الاصطفاف في صف طويل قد يمتد مائة متر، ليتم التفتيش الدقيق، ومنع دخول مستلزمات مهمة عديدة بدون سبب مقنع. وأحيانا، تكون المعاملة سيئة لأهل السجين، مختلطة بالصياح والإهانات. وبعد
ساعاتٍ طويلة من الانتظار تتم الزيارة المختلطة بالدموع ومشاعر الشوق والحرمان، وتكون مدتها دقائق معدودة، وقد يتم إلغاء الزيارة بدون سبب واضح.
تمر أيام العيد كئيبةً وثقيلةً وحزينة على عشرات آلاف العائلات، فقد يكون لهم أب سجين أو جد أو ابن أو ابنة.. وفي بعض الأحيان، قد تكون الزوجة هي التي في المعتقل، وهناك عائلات بأكملها في السجون المصرية لأسباب سياسية، بسبب انتماء أو بسبب رأي معارض في جلسة علنية، أو بسبب محاولة فعل نشاط معارض، وهناك آلاف الشباب في السجون بسبب تغريدة ما. وهناك أيضا آلاف الشباب في السجن بدون سبب أو فعل، ولكن حظهم العسير قادهم إلى الوجود في المكان الخطأ، أو ضمن معارف شخص مرصود أمنيا.
وإذا كان عائل الأسرة هو المعتقل يكون الألم أكبر. تعاني الزوجة والأولاد من ضيق الحال وزيادة المصروفات والمعاناة، يحاول الأهل أو المعارف المساعدة، ولكن لا شيء يعوّض غياب الأب أو الزوج. هناك دور رئيسي للأب مع أولاده، وهناك حياة ورابط بين الزوج وزوجته، لا يستطيع تعويض ذلك، وخصوصا لو كان الأبناء صغارا يفتقدون رب الأسرة الذي يحميهم ويدبر أحوالهم. أما في حالة أن يكون المسجون هو الابن الشاب، أو ربما الابنة الشابة، فتكون العائلة في حالة كرب دائم، لا طعم للأعياد. يفكرون طوال الوقت في حال مَن في السجن، ومتى يخرج ومستقبله بعد الخروج.
العيد داخل السجون مؤلم، حيث لا تسمع تكبيرات العيد، وغير مسموح بالصلاة الجماعية خارج الزنازين، إلا لبعض السجناء الجنائيين المرضي عنهم. يوم العيد أكثر كآبة من الأيام العادية خصوصا للسجين السياسي، حيث يتم إغلاق السجن. السادة الضباط في إجازة، والحل الأسهل لديهم إغلاق السجن وإغلاق الزنازين ومنع التريّض ومنع الزيارات ومنع الخروج من الزنزانة لأي سبب، مهما كان الظرف الطارئ أو الحالة المرضية.
تمضي اللحظات داخل السجن في غاية البطء والكآبة. يظل السجين يتذكّر لحظات العيد عندما كان حرّا. يحاول اختراع أي مظاهر للبهجة أو السعادة بتعليق البالونات وإطلاق التكبيرات داخل الزنازين. تهنئ كل زنزانة الزنازين المجاورة، ويحاولون تبادل الهدايا والأطعمة في أي فرصة، الاستسلام للاكتئاب داخل السجن مدمر، ويجب التغلب عليه بأي فرحة، ولو جزئية، أو
صورية.
لا يختلف الوضع كثيرا للذين يقضون عقوبة المراقبة اليومية بعد إنهاء عقوبة السجن. يوم وقفة عرفة يكون الإفطار في قسم الشرطة، حيث يتم رفض منْح إجازة للمراقَب السياسي، وليلة العيد يقضونها في غرف المراقبة، أو في طرقات القسم، يمنع عليهم صلاة العيد كذلك، ويقضون باقي أيام العيد في الحبس المسائي، بعيدا عن الأهل والأصدقاء، وبعيدا عن كل مظاهر الحياة الطبيعية.
عشرات الآلاف من السجناء السياسيين منذ 3 يوليو/ تموز 2013. يقضي بعضهم عاما أو عامين كحبس احتياطي، إلى أن يتم إخلاء سبيله فجأة، كما تم حبسه فجأة. ويقضي آخرون أحكاما بالسجن عدة سنوات، ويخرج بعضهم ليجد عقوبة تكميلية بالحبس المسائي في قسم الشرطة مدة مساوية لسنوات الحبس يطلق عليها عقوبة المراقبة. وعلى الرغم من الإفراجات كل فترة أو إنهاء مدد الحبس، لا يمر أسبوع في مصر من دون معتقلين جدد، بخلاف آخرين يقضون عقوبات بالحبس المؤبد. تزداد المظالم ويزداد الألم ويتراكم الغضب، فيما السلطة لا تُلقي بالاً لذلك كله، ولا تعتبر في ذلك مشكلة، بل ترى السلطة أن كل تلك الإجراءات ضرورة لحماية النظام وحماية الحكم، ولكن يغفلون أن دوام الحال من المحال، وأن التجارب القريبة والبعيدة تقول إن اللحظة الحاسمة تأتي فجأة.
زيارة المقابر أيضاً من العادات المصرية الأصيلة، خصوصاً في الأرياف والصعيد وخارج القاهرة. تذكر الأحباب والدعاء لهم على رأس القبر من العادات المصرية المهمة. في الأعياد يتوجه الملايين لزيارة المقابر في مصر بعد صلاة العيد. إلقاء السلام على الأموات وقراءة القرآن الكريم، مشاعر الرثاء واستشعار هيبة الموت، محاولة مؤانستهم في وحدتهم داخل القبر. ومن العار الكبير أن يتناسى المرء زيارة أهله في القبور فترات طويلة، ومن المهم زيارة الموتى في العيد كما نزور الأحياء.
ولكن استجدت زيارات أخرى في مصر لا تقل أهمية عن زيارة المقابر، وإن كانت أكثر حزنا وكآبة وثقلا. إنها زيارة الأحباب خلف أسوار السجون والمعتقلات، انتظار ساعات طويلة في الشمس الحارقة خارج السجن، حتى يحين الدور، وكثيرا ما يكون الأهل من خارج المحافظة المسجون بها الابن فيقضون ساعات طويلة وشاقة في السفر والانتقال، ليتم الاصطفاف في صف طويل قد يمتد مائة متر، ليتم التفتيش الدقيق، ومنع دخول مستلزمات مهمة عديدة بدون سبب مقنع. وأحيانا، تكون المعاملة سيئة لأهل السجين، مختلطة بالصياح والإهانات. وبعد
تمر أيام العيد كئيبةً وثقيلةً وحزينة على عشرات آلاف العائلات، فقد يكون لهم أب سجين أو جد أو ابن أو ابنة.. وفي بعض الأحيان، قد تكون الزوجة هي التي في المعتقل، وهناك عائلات بأكملها في السجون المصرية لأسباب سياسية، بسبب انتماء أو بسبب رأي معارض في جلسة علنية، أو بسبب محاولة فعل نشاط معارض، وهناك آلاف الشباب في السجون بسبب تغريدة ما. وهناك أيضا آلاف الشباب في السجن بدون سبب أو فعل، ولكن حظهم العسير قادهم إلى الوجود في المكان الخطأ، أو ضمن معارف شخص مرصود أمنيا.
وإذا كان عائل الأسرة هو المعتقل يكون الألم أكبر. تعاني الزوجة والأولاد من ضيق الحال وزيادة المصروفات والمعاناة، يحاول الأهل أو المعارف المساعدة، ولكن لا شيء يعوّض غياب الأب أو الزوج. هناك دور رئيسي للأب مع أولاده، وهناك حياة ورابط بين الزوج وزوجته، لا يستطيع تعويض ذلك، وخصوصا لو كان الأبناء صغارا يفتقدون رب الأسرة الذي يحميهم ويدبر أحوالهم. أما في حالة أن يكون المسجون هو الابن الشاب، أو ربما الابنة الشابة، فتكون العائلة في حالة كرب دائم، لا طعم للأعياد. يفكرون طوال الوقت في حال مَن في السجن، ومتى يخرج ومستقبله بعد الخروج.
العيد داخل السجون مؤلم، حيث لا تسمع تكبيرات العيد، وغير مسموح بالصلاة الجماعية خارج الزنازين، إلا لبعض السجناء الجنائيين المرضي عنهم. يوم العيد أكثر كآبة من الأيام العادية خصوصا للسجين السياسي، حيث يتم إغلاق السجن. السادة الضباط في إجازة، والحل الأسهل لديهم إغلاق السجن وإغلاق الزنازين ومنع التريّض ومنع الزيارات ومنع الخروج من الزنزانة لأي سبب، مهما كان الظرف الطارئ أو الحالة المرضية.
تمضي اللحظات داخل السجن في غاية البطء والكآبة. يظل السجين يتذكّر لحظات العيد عندما كان حرّا. يحاول اختراع أي مظاهر للبهجة أو السعادة بتعليق البالونات وإطلاق التكبيرات داخل الزنازين. تهنئ كل زنزانة الزنازين المجاورة، ويحاولون تبادل الهدايا والأطعمة في أي فرصة، الاستسلام للاكتئاب داخل السجن مدمر، ويجب التغلب عليه بأي فرحة، ولو جزئية، أو
لا يختلف الوضع كثيرا للذين يقضون عقوبة المراقبة اليومية بعد إنهاء عقوبة السجن. يوم وقفة عرفة يكون الإفطار في قسم الشرطة، حيث يتم رفض منْح إجازة للمراقَب السياسي، وليلة العيد يقضونها في غرف المراقبة، أو في طرقات القسم، يمنع عليهم صلاة العيد كذلك، ويقضون باقي أيام العيد في الحبس المسائي، بعيدا عن الأهل والأصدقاء، وبعيدا عن كل مظاهر الحياة الطبيعية.
عشرات الآلاف من السجناء السياسيين منذ 3 يوليو/ تموز 2013. يقضي بعضهم عاما أو عامين كحبس احتياطي، إلى أن يتم إخلاء سبيله فجأة، كما تم حبسه فجأة. ويقضي آخرون أحكاما بالسجن عدة سنوات، ويخرج بعضهم ليجد عقوبة تكميلية بالحبس المسائي في قسم الشرطة مدة مساوية لسنوات الحبس يطلق عليها عقوبة المراقبة. وعلى الرغم من الإفراجات كل فترة أو إنهاء مدد الحبس، لا يمر أسبوع في مصر من دون معتقلين جدد، بخلاف آخرين يقضون عقوبات بالحبس المؤبد. تزداد المظالم ويزداد الألم ويتراكم الغضب، فيما السلطة لا تُلقي بالاً لذلك كله، ولا تعتبر في ذلك مشكلة، بل ترى السلطة أن كل تلك الإجراءات ضرورة لحماية النظام وحماية الحكم، ولكن يغفلون أن دوام الحال من المحال، وأن التجارب القريبة والبعيدة تقول إن اللحظة الحاسمة تأتي فجأة.