04 أكتوبر 2024
عن النرجسية والقومية
في كتابه المهم عن تاريخ العنف في البشرية، يتحدث عالم النفس، ستيفين بينكر، عن فكرة القومية بشكل عام، ودورها الرئيسي في تكريس الكراهية وتشجيع العنف ضد الآخر، وفي إشعال الصراعات الدموية والحروب المدمرة بين البشر، أعراقاً وقوميات وقبائل.
يقول بينكر إنه يمكن فهم ظاهرة القومية وتفسيرها بوصفها تفاعلاً بين علم النفس والتاريخ، إنها الالتحام القوي بين ثلاثة أشياء أو عوامل. الأول، الرابط العاطفي الذي يجمع طائفةً أو قبيلة، وكذلك الشحن العاطفي الذي يغذّي وعي طائفةٍ أو قبيلةٍ أو مجموعة من البشر. والثاني، هو الأفكار العامة المشتركة أو القواسم المشتركة بين مجموعةٍ من الناس، مشتركين في لغةٍ واحدةٍ أو أصل واحد أو دين واحد أو مكان جغرافي واحد أو عرق واحد. والعامل الثالث الملتحم مع الأول والثاني هو التحكّم في الإدارة أو الجهاز السياسي أو الحكومي.
ويقول أينشتاين إن القومية أو الفكر القومي هو بثور ودمامل في وجه البشرية، أو في التطور البشري، ويرى ستيفين بينكر أنها ربما لا تكون كذلك. ولكن، في أحيانٍ كثيرة، هي صداع. ولكن، تصبح وباءً مدمراً وفتاكاً، إذا أصابت القومية أناساً لديهم ما يكافئ "النرجسية" في الطب النفسي.
فالنرجسيه تضخم الذات مع محتوى هشٍّ وإحساس ومطالب غير مستحقة بالتميز على باقي البشر، كما أن النرجسية يمكن أن تؤدي إلى العنف، لو ارتبطت بالتعصب وتحقير الآخر.
ويرى بينكر أن دمج النرجسية والقومية يؤدي إلى نتائج وظواهر مدمرة، مثل جنون العظمة وانتفاخ الذات الذي قد يصيب أمةً ما أو حضارةً ما، فترى أن عندها حقاً تاريخياً في العظمة، بسبب الماضي العظيم، على الرغم من أن الواقع الحالي متدنٍ أو سيئ.
وبسبب أوهام الماضي، وبسبب النرجسية وتضخم الذات، يتولد شعورٌ بكراهية الآخر، المتقدّم في الوقت الحالي، أو حتى المتكافئ، وهذا ما يقود إلى تمني الشر والتدمير للآخر، بدلا من تطوير الذات. ولذلك، يتم استخدام العواطف من أجل السيطرة، وتتولد، مع ذلك، مشاعر مثل الحسد والإحساس بالفشل والدونية، ثم التحيز ضد الآخر والغضب.
وهناك كثيرون من علماء التاريخ الذين ربطوا بين الحروب الكبرى التي قُتل فيها ملايين البشر في النصف الأول من القرن العشرين، بذلك التضخم في الذات وجنون العظمة الذي أصاب كلاً من روسيا وألمانيا، فقد كان لدى الاثنين الشعور بالعظمة والتميز، وأن باقي العالم هو مجموعة من الأعداء يحقد عليهما.
ويقودنا الكلام السابق لستيفين بينكر إلى التفكير في فكرة القومية بصفة عامة، وفي القومية
العربية بصفة خاصة، فقد بدأت الأخيرة منذ أكثر من 100 عام، وكانت بداية ظهورها مرتبطةً بمساعي التحرّر من الحكم العثماني، وإنشاء الدولة العربية المتحدة أو الولايات العربية المتحدة، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى إلى اتفاقية سايكس بيكو التي يلعنها القوميون العرب الآن، على الرغم من أن بدايتها كانت بين ملوك وأعيان عرب مؤمنين بفكرة القومية العربية وقوى الاستعمار. ولكن، ما حدث في الاتفاقية اختلف بعد ذلك، بسبب طمع الحكام العرب وجشعهم وقتها.
ولكن، مع الوقت، تشوّهت فكرة القومية العربية، وتم اختزالها من مضمونها، وتقسيمها بين بعثيين وناصريين، وبعد أن كان الجميع باسم القومية العربية منخرطين في حركات التحرّر العربي في الخمسينيات من القرن الماضي، أصبح هناك الزعيم "أو أكثر"، وأصبح هناك الحاكم الفرد الذي لا يأتيه الباطل.
تحول الحلم القومي العربي إلى زعامةٍ لمصر، أو زعامة للشام أو للعراق، وأصبح هناك تخفٍّ وراء حلم الوحدة والقومية، من أجل مصالح قُطرية أو شخصية، وتحول الأمر إلى مجرد خطب وأغانٍ وشعارات برّاقة وعاطفية بلا مضمون، وانتهاك للحريات وتأجيل للديمقراطية باسم القومية والمعركة ضد الاستعمار وضد الرجعية، وانتهى الحلم إلى كارثة 1967.
وهناك مقالة قديمة منذ 20 عاماً، يتحدث فيها أستاذنا الدكتور حسن حنفي عن وحدة الشعوب بدلاً من وحدة الأنظمة، فمحاولات الوحدة التي حدثت كانت باتفاقٍ بين الأنظمة، وليس الشعوب، فقد كانت وحدةً عاطفيةً رومانسيةً بالخطب والأغاني، فورية ناتجة عن لقاءات الزعماء، اندماجية للأجهزة، والأخطر أنها كانت وحدة للنظم، وليس الشعوب، ولم تكن وحدة حقيقية عابرة للحدود، ولا وحدة اقتصادية ومناطق تجارية حرة وصناعة مشتركة.
وهناك مقالات أيضاً عن الصراعات المدمرة التي تعيشها منطقتنا، منذ عشرات السنين حتى اليوم بين الهويتين، العروبية والإسلامية، العروبة والإسلام، دولة الخلافة الإسلامية التي كانت تضطهد القوميين العرب، منذ أكثر من 100 عام، أم القومية العربية التي تضطهد الحركات الإسلامية، بدعوى أنها صنيعة الاستعمار، التخوين أو التكفير، الثأر التاريخي بين العروبيين والإسلاميين.
يقود ذلك كله إلى التفكير والتساؤل، هل يمكن أن يشهد المستقبل "البعيد" حواراً وبحثاً عن
مشترك، أو على الأقل التقليل من حدّة الصراع، وإخراجه من مناطق الصراع الصغرى، بعد رصد ودراسة واعتراف بكوارث وأخطاء ارتكبت باسم الهوية أو القومية أو التميز عن الآخر؟
هل يمكن إحداث تطوير في الفكر القومي عموماً، وإنتاج نظريات أو أفكار عن القومية العربية أو الهوية الإسلامية، بدون اجترار الماضي وتعظيم الذات، وخالية من التكفير والتخوين والتعصب والتطرف وكراهية الآخر؟
وبمناسبة ذكرى حركة يوليو المباركة، أتساءل، أحياناً، حول ماذا لو كان انتصر تيار الديمقراطية في 1954 وعاد الجيش إلى الثكنات، وعادت الحياة الديمقراطية، وتم البدء في إقامة حياة ديمقراطية سلمية؟
ماذا لو لم ينقلب عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب، ولم يحبسه طوال هذه السنوات؟ ماذا لو كانت هناك أحزاب وتعدّدية وحرية رأي وتعبير وتداول سلطة واحترام لحقوق الإنسان؟ ماذا لو تم الاعتماد على الكفاءات وأهل الخبرة، بدلاً من أهل الثقة؟ ماذا لو لم يغامر، ونضعف الجيش المصري، وتضيع كل تلك الأموال والموارد في حرب اليمن؟ ماذا لو كان هناك تحليل ودراسة لما حدث في 1956، ماذا لو كان هناك حساب حقيقي، واعتراف بالأخطاء التي قادت إلى كارثة 1967؟ ماذا لو؟
يقول بينكر إنه يمكن فهم ظاهرة القومية وتفسيرها بوصفها تفاعلاً بين علم النفس والتاريخ، إنها الالتحام القوي بين ثلاثة أشياء أو عوامل. الأول، الرابط العاطفي الذي يجمع طائفةً أو قبيلة، وكذلك الشحن العاطفي الذي يغذّي وعي طائفةٍ أو قبيلةٍ أو مجموعة من البشر. والثاني، هو الأفكار العامة المشتركة أو القواسم المشتركة بين مجموعةٍ من الناس، مشتركين في لغةٍ واحدةٍ أو أصل واحد أو دين واحد أو مكان جغرافي واحد أو عرق واحد. والعامل الثالث الملتحم مع الأول والثاني هو التحكّم في الإدارة أو الجهاز السياسي أو الحكومي.
ويقول أينشتاين إن القومية أو الفكر القومي هو بثور ودمامل في وجه البشرية، أو في التطور البشري، ويرى ستيفين بينكر أنها ربما لا تكون كذلك. ولكن، في أحيانٍ كثيرة، هي صداع. ولكن، تصبح وباءً مدمراً وفتاكاً، إذا أصابت القومية أناساً لديهم ما يكافئ "النرجسية" في الطب النفسي.
فالنرجسيه تضخم الذات مع محتوى هشٍّ وإحساس ومطالب غير مستحقة بالتميز على باقي البشر، كما أن النرجسية يمكن أن تؤدي إلى العنف، لو ارتبطت بالتعصب وتحقير الآخر.
ويرى بينكر أن دمج النرجسية والقومية يؤدي إلى نتائج وظواهر مدمرة، مثل جنون العظمة وانتفاخ الذات الذي قد يصيب أمةً ما أو حضارةً ما، فترى أن عندها حقاً تاريخياً في العظمة، بسبب الماضي العظيم، على الرغم من أن الواقع الحالي متدنٍ أو سيئ.
وبسبب أوهام الماضي، وبسبب النرجسية وتضخم الذات، يتولد شعورٌ بكراهية الآخر، المتقدّم في الوقت الحالي، أو حتى المتكافئ، وهذا ما يقود إلى تمني الشر والتدمير للآخر، بدلا من تطوير الذات. ولذلك، يتم استخدام العواطف من أجل السيطرة، وتتولد، مع ذلك، مشاعر مثل الحسد والإحساس بالفشل والدونية، ثم التحيز ضد الآخر والغضب.
وهناك كثيرون من علماء التاريخ الذين ربطوا بين الحروب الكبرى التي قُتل فيها ملايين البشر في النصف الأول من القرن العشرين، بذلك التضخم في الذات وجنون العظمة الذي أصاب كلاً من روسيا وألمانيا، فقد كان لدى الاثنين الشعور بالعظمة والتميز، وأن باقي العالم هو مجموعة من الأعداء يحقد عليهما.
ويقودنا الكلام السابق لستيفين بينكر إلى التفكير في فكرة القومية بصفة عامة، وفي القومية
ولكن، مع الوقت، تشوّهت فكرة القومية العربية، وتم اختزالها من مضمونها، وتقسيمها بين بعثيين وناصريين، وبعد أن كان الجميع باسم القومية العربية منخرطين في حركات التحرّر العربي في الخمسينيات من القرن الماضي، أصبح هناك الزعيم "أو أكثر"، وأصبح هناك الحاكم الفرد الذي لا يأتيه الباطل.
تحول الحلم القومي العربي إلى زعامةٍ لمصر، أو زعامة للشام أو للعراق، وأصبح هناك تخفٍّ وراء حلم الوحدة والقومية، من أجل مصالح قُطرية أو شخصية، وتحول الأمر إلى مجرد خطب وأغانٍ وشعارات برّاقة وعاطفية بلا مضمون، وانتهاك للحريات وتأجيل للديمقراطية باسم القومية والمعركة ضد الاستعمار وضد الرجعية، وانتهى الحلم إلى كارثة 1967.
وهناك مقالة قديمة منذ 20 عاماً، يتحدث فيها أستاذنا الدكتور حسن حنفي عن وحدة الشعوب بدلاً من وحدة الأنظمة، فمحاولات الوحدة التي حدثت كانت باتفاقٍ بين الأنظمة، وليس الشعوب، فقد كانت وحدةً عاطفيةً رومانسيةً بالخطب والأغاني، فورية ناتجة عن لقاءات الزعماء، اندماجية للأجهزة، والأخطر أنها كانت وحدة للنظم، وليس الشعوب، ولم تكن وحدة حقيقية عابرة للحدود، ولا وحدة اقتصادية ومناطق تجارية حرة وصناعة مشتركة.
وهناك مقالات أيضاً عن الصراعات المدمرة التي تعيشها منطقتنا، منذ عشرات السنين حتى اليوم بين الهويتين، العروبية والإسلامية، العروبة والإسلام، دولة الخلافة الإسلامية التي كانت تضطهد القوميين العرب، منذ أكثر من 100 عام، أم القومية العربية التي تضطهد الحركات الإسلامية، بدعوى أنها صنيعة الاستعمار، التخوين أو التكفير، الثأر التاريخي بين العروبيين والإسلاميين.
يقود ذلك كله إلى التفكير والتساؤل، هل يمكن أن يشهد المستقبل "البعيد" حواراً وبحثاً عن
هل يمكن إحداث تطوير في الفكر القومي عموماً، وإنتاج نظريات أو أفكار عن القومية العربية أو الهوية الإسلامية، بدون اجترار الماضي وتعظيم الذات، وخالية من التكفير والتخوين والتعصب والتطرف وكراهية الآخر؟
وبمناسبة ذكرى حركة يوليو المباركة، أتساءل، أحياناً، حول ماذا لو كان انتصر تيار الديمقراطية في 1954 وعاد الجيش إلى الثكنات، وعادت الحياة الديمقراطية، وتم البدء في إقامة حياة ديمقراطية سلمية؟
ماذا لو لم ينقلب عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب، ولم يحبسه طوال هذه السنوات؟ ماذا لو كانت هناك أحزاب وتعدّدية وحرية رأي وتعبير وتداول سلطة واحترام لحقوق الإنسان؟ ماذا لو تم الاعتماد على الكفاءات وأهل الخبرة، بدلاً من أهل الثقة؟ ماذا لو لم يغامر، ونضعف الجيش المصري، وتضيع كل تلك الأموال والموارد في حرب اليمن؟ ماذا لو كان هناك تحليل ودراسة لما حدث في 1956، ماذا لو كان هناك حساب حقيقي، واعتراف بالأخطاء التي قادت إلى كارثة 1967؟ ماذا لو؟