13 فبراير 2022
عن الوعي المفارِق للثورة
تمثل الأحداث التاريخية الكبرى لحظاتٍ تأسيسيةً لوعيٍ جديد مصاحبٍ لها، وشريكٍ في صياغة تفاعلاتها وأهدافها. كما تتحول هي، بمرور الوقت، كي تصبح جزءاً أساسياً في استحضار هذا الوعي عند المحكّات المقلقة. وهو ما حدث مع لحظة التغيير التي أطلقتها موجة الانتفاضات العربية قبل خمس سنوات، ولا تزال تداعياتها جاريةً ومتفاعلةً ومتداخلة، وهي الموجة التي أسّست لوعي عربي جديد، خصوصاً على مستوى الشعوب، أهم ملامحه الثورية والسعي إلى التغيير. ويصبح قياس النجاح والفشل في تحقيق ذلك، ليس فقط بمدى إنجاز الفعل الثوري غاياته، وإنما أيضا بمدى تحوّل هذه الغايات إلى مغذٍّ ومجدّدٍ للوعي المصاحب للفعل الثوري. وهنا، يصبح التمييز بين الوعيين، الحقيقي الزائف، في فهم صيرورة التحولات الراهنة أمراً مهماً. فالأول هو وعي ملازم للحظة الثورية، أما الثاني فهو مفارقٌ ومهدّد لها. والأول مرتبط بقطاعاتٍ سعت، ولا تزال، إلى التغيير، ليس بكونه فعلاً رومانسيا أو هدفاً بحد ذاته، وإنما لأنه ينطوي على مصلحةٍ حقيقيةٍ في تغيير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة. أما الثاني فهو وعي رافض، ومقابل لهذه المصلحة والرغبة، ويسعى إلى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه.
خذ مثلاً الحالة السورية، والتي كانت بداياتها بمثابة لحظةٍ تأسيسيةٍ لوعي جديد، يبغي التحرّر والخلاص من طبقات الاستبداد والتوحش السلطوي التي استمرت عقوداً. وهو وعيٌ صاحب الثورة منذ بدايتها، وأصبح المصدر الأساسي، إنْ لم يكن الوحيد، لشرعيّتها بشكلٍ جعل جميع القوى والحركات والتجمعات، والتي على الرغم من تنوعها واختلافها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تدّعي وصلاً بالثورة وملازَمةً لأهدافها. وهو وعيٌ يتكرّس، كل يوم، مع زيادة معدّل الوحشية والفظاعة التي يتعرّض لها هؤلاء، بشكلٍ يُراكم طبقات الوعي الخلاصي والفعل التحرّري. في حين وقعت جماعاتٌ وحركاتٌ وأفرادٌ أخرى في مصيدة الوعي الزائف المقابل للثورة، بشكلٍ جعلها تحاول التصدّي للثورة، ووقف وعيها التأسيسي، خوفاً من تداعياته المستقبلية عليها، والذي يعني ضمناً، في حال نجحت الثورة، إطاحتها أيضا وتحطيم مصالحها. وذلك على غرار ما تفعل الجماعات المتواطئة مع نظام الأسد، سواء من الداخل أو الخارج، أو الحركات الجهادية الراديكالية التي تخوض معركة "وعيٍ" زائف، تسعى من خلالها إلى سحب الثورة إلى مساحاتها وملعبها الخاص. وفي الصراع بين الوعيين، الأصيل والزائف، تُستخدم الأدوات والأوراق والاستراتيجيات كافة من أجل حسم المعركة لأيٍّ من الطرفين.
وتبدو هذه المعركة (معركة الوعي) أكثر وضوحاً في الحالة المصرية، فثمة وعي ثوري تم
تأسيسه في لحظة الخامس والعشرين من يناير، أصبح لاحقاً جزءاً أصيلاً من الثورة، وباتت علاقته بها أشبه بعلاقة الرضيع بأمه، وهو الوعي الذي قاد المرحلة الانتقالية، طوال العامين والنصف اللذيْن تليا الثورة حتى وقوع انقلاب الثالث من يوليو 2013. وهو وعيٌ، حاولت كل الأطراف التلاعب به، وتجييره لصالحها، سواء كانت الدولة العميقة بمختلف مؤسساتها، أو الإسلاميين بكل أطيافهم، أو القوى الإقليمية بأذرعها المختلفة. وهو الوعي الذي تم تشتيته وتفريقه وتفتيته طوال المرحلة الانتقالية، من خلال المعارك الجانبية التي دارت بين مختلف القوى، ما سمح للبنية السلطوية القديمة بالنفاذ، وإعادة سيطرتها على الدولة والمجتمع.
وجاءت لحظة تأسيس الوعي الزائف، مع الانقلاب الذي نجح في طمس الوعي الثوري لدي بعض القوى التي كانت يوماً جزءاً من الثورة، وأوهمها بالدفاع عن أهدافها ومصالحها. وهو ما سهّل عملية التعبئة والحشد المضادّة للثورة، والانقضاض على قواها الحية. لذا، لم يعد مستغرباً أن ترى "رمزاً" ثورياً أو جماعةً كانت، في الأصل، جزءاً من الثورة، تقع فريسةً لهذا الوعي الزائف، فتتبنّى سرديته ورؤيته، وتدافع عن أساليبه واستراتيجيته، حتى وإن وصلت إلى درجة القمع الوحشي لأصدقاء الأمس الذين كانوا يوماً جزءاً من حراك الثورة وتفاعلاتها. بل تحوّل الوعي الزائف، نفسه، إلى سرديةٍ جديدةٍ، تحاول القوى المضادة تسويقها باعتبارها الأصل، وما عداها هو الزيف.
بكلماتٍ أخرى، لم يكن الانقلاب فقط على الثورة، وإنما أيضاً على وعيها وذاكرتها. وكانت إحدى الأساليب البارعة لتسويق هذا الوعي الزائف تتم من خلال استحضار "الفزّاعة"، سواء بالتخويف بالإسلاميين، أو من مصائر البلدان المجاورة كسورية والعراق وليبيا، وبحيث أصبح الدفاع عن هذا الوعي "الزائف" بمثابة مهمةٍ وطنيةٍ تبرّر كل ما يحدث باسمه، سواء من قمع الآلاف وقتلهم وتشريدهم، أو بالتنازل عن تراب الوطن. أي أنه، وعلى غرار الوعي الثوري الأصيل، ليس وعياً قائماً بذاته ولذاته.
المعركة بين الوعييْن الثوري والزائف هي، بالأساس، معركة صفرية، فتحقق أحدهما هو نفيٌ للآخر. والتعايش بينهما يعد نوعاً من العدم. من هنا، لا يمكن لفصيلٍ أو طرفٍ أو شخص، الآن، أن يدّعي الثورة، وهو غارق حتى أذنيه في تسويغ وعيها المقابل وتسويقه. كما لا يمكن لأحد أن يدافع عن الثورة، ويبرّر الانقلاب عليها في الوقت نفسه. ويصبح أحد متطلبات الانعتاق من هذا الوعي الزائف هو العودة إلى الثورة، واستلهام وعيها ومنطقها، والتوقف عن طرح الشروط المبدئية لهذه العودة، على نحو ما تفعل بعض القوى والرموز العلمانية والليبرالية ونظيرتها الإسلامية، كل من منطلقاته وأهدافه. فالجميع وقع في فخ الوعي الزائف، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وهو وعيٌ أثبتت التجربة أنه مفارقٌ للثورة، ومدمّر لها.
خذ مثلاً الحالة السورية، والتي كانت بداياتها بمثابة لحظةٍ تأسيسيةٍ لوعي جديد، يبغي التحرّر والخلاص من طبقات الاستبداد والتوحش السلطوي التي استمرت عقوداً. وهو وعيٌ صاحب الثورة منذ بدايتها، وأصبح المصدر الأساسي، إنْ لم يكن الوحيد، لشرعيّتها بشكلٍ جعل جميع القوى والحركات والتجمعات، والتي على الرغم من تنوعها واختلافها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تدّعي وصلاً بالثورة وملازَمةً لأهدافها. وهو وعيٌ يتكرّس، كل يوم، مع زيادة معدّل الوحشية والفظاعة التي يتعرّض لها هؤلاء، بشكلٍ يُراكم طبقات الوعي الخلاصي والفعل التحرّري. في حين وقعت جماعاتٌ وحركاتٌ وأفرادٌ أخرى في مصيدة الوعي الزائف المقابل للثورة، بشكلٍ جعلها تحاول التصدّي للثورة، ووقف وعيها التأسيسي، خوفاً من تداعياته المستقبلية عليها، والذي يعني ضمناً، في حال نجحت الثورة، إطاحتها أيضا وتحطيم مصالحها. وذلك على غرار ما تفعل الجماعات المتواطئة مع نظام الأسد، سواء من الداخل أو الخارج، أو الحركات الجهادية الراديكالية التي تخوض معركة "وعيٍ" زائف، تسعى من خلالها إلى سحب الثورة إلى مساحاتها وملعبها الخاص. وفي الصراع بين الوعيين، الأصيل والزائف، تُستخدم الأدوات والأوراق والاستراتيجيات كافة من أجل حسم المعركة لأيٍّ من الطرفين.
وتبدو هذه المعركة (معركة الوعي) أكثر وضوحاً في الحالة المصرية، فثمة وعي ثوري تم
وجاءت لحظة تأسيس الوعي الزائف، مع الانقلاب الذي نجح في طمس الوعي الثوري لدي بعض القوى التي كانت يوماً جزءاً من الثورة، وأوهمها بالدفاع عن أهدافها ومصالحها. وهو ما سهّل عملية التعبئة والحشد المضادّة للثورة، والانقضاض على قواها الحية. لذا، لم يعد مستغرباً أن ترى "رمزاً" ثورياً أو جماعةً كانت، في الأصل، جزءاً من الثورة، تقع فريسةً لهذا الوعي الزائف، فتتبنّى سرديته ورؤيته، وتدافع عن أساليبه واستراتيجيته، حتى وإن وصلت إلى درجة القمع الوحشي لأصدقاء الأمس الذين كانوا يوماً جزءاً من حراك الثورة وتفاعلاتها. بل تحوّل الوعي الزائف، نفسه، إلى سرديةٍ جديدةٍ، تحاول القوى المضادة تسويقها باعتبارها الأصل، وما عداها هو الزيف.
بكلماتٍ أخرى، لم يكن الانقلاب فقط على الثورة، وإنما أيضاً على وعيها وذاكرتها. وكانت إحدى الأساليب البارعة لتسويق هذا الوعي الزائف تتم من خلال استحضار "الفزّاعة"، سواء بالتخويف بالإسلاميين، أو من مصائر البلدان المجاورة كسورية والعراق وليبيا، وبحيث أصبح الدفاع عن هذا الوعي "الزائف" بمثابة مهمةٍ وطنيةٍ تبرّر كل ما يحدث باسمه، سواء من قمع الآلاف وقتلهم وتشريدهم، أو بالتنازل عن تراب الوطن. أي أنه، وعلى غرار الوعي الثوري الأصيل، ليس وعياً قائماً بذاته ولذاته.
المعركة بين الوعييْن الثوري والزائف هي، بالأساس، معركة صفرية، فتحقق أحدهما هو نفيٌ للآخر. والتعايش بينهما يعد نوعاً من العدم. من هنا، لا يمكن لفصيلٍ أو طرفٍ أو شخص، الآن، أن يدّعي الثورة، وهو غارق حتى أذنيه في تسويغ وعيها المقابل وتسويقه. كما لا يمكن لأحد أن يدافع عن الثورة، ويبرّر الانقلاب عليها في الوقت نفسه. ويصبح أحد متطلبات الانعتاق من هذا الوعي الزائف هو العودة إلى الثورة، واستلهام وعيها ومنطقها، والتوقف عن طرح الشروط المبدئية لهذه العودة، على نحو ما تفعل بعض القوى والرموز العلمانية والليبرالية ونظيرتها الإسلامية، كل من منطلقاته وأهدافه. فالجميع وقع في فخ الوعي الزائف، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وهو وعيٌ أثبتت التجربة أنه مفارقٌ للثورة، ومدمّر لها.